الحل العربي

TT

في يوم من صيف 1967 ذهبت اتناول الغداء في احد مطاعم شاطئ بيروت. وجاء صاحب المطعم يقف على خاطري ويقدم لي بعض الافكار السياسية من اجل ان اكتبها. ووضع يده على كتفي وقال: «إياك ان تكون بين الذين صدقوا الهزيمة، انتظر عاماً واحداً وسوف ترى ماذا سيفعل ابو خالد (عبد الناصر)، انه يعد الآن الاف الطلاب من اجل هجوم كاسح على اسرائيل. صدقني. خذها من ذقني». وقلت له، «لكن مصر بلا سلاح جوي ومدرعاتها محترقة وخطوطها الامامية محتلة». قال وهو يضحك مني: «وهل تعتقد ان ابو خالد سوف يعتمد على الطيران؟ هل هو ساذج الى هذه الدرجة؟ انهم يعدون الآن طائرات غير مرئية تقودها الارواح».

كانت تلك آخر مرة اذهب فيها الى ذلك المطعم. لكنني عرفت من صاحبه سر الهزيمة، كما شعرت بيأس عميق لا نهاية له. شعرت ان الهزيمة اعادتنا الى عالم السحر والخرافات وطائر الرَّخ. وبعد ذلك انتشرت في العواصم كتب السحر والاساطير واعيدت طباعة الزير وعنترة وتغريبة بني هلال. ولم اعد ادخل الى مكتبة في مدينة عربية الا وارى امامي نسخاً جديدة من كتب تفسير الاحلام واسرار التنجيم.

التقيت الاسبوع الماضي صديقاً من كبار العاملين في حقل النشر والطباعة والتوزيع. وسألته كالعادة عن حال الكتاب العربي. وقال لي «اسألني عن حال الامة. لقد تضاعف بيع الكتب المتعلقة بالسحر منذ نهاية حرب العراق. وحتى المكتبات الراقية والمختصة تطلب منا الآن هذا النوع من الكتب. وهناك تجار اذكياء يعرفون جيداً كيف يستغلون حالة الخدر هذه فيغرقون الاسواق بالكتب الرخيصة التي يؤلفها اي صاحب مخيلة مريضة خلال نصف ساعة».

كلما حلت بالعرب نازلة ذهبوا الى الخرافة. انها اسهل الطرق واكثرها راحة. ويمكن الذهاب الى الخرافة من دون ان نغادر مقعدنا في المقهى حيث تتنافس النراجيل بجودة التبغ وطول النرابيش. وهي ايضاً علامة من علامات الرجولة، تؤخذ الى جانبها الصور التذكارية بالشوارب المعكوفة. وطالما ربحت الحروب في المقاهي. وطالما اقسم القبضايات وهم «يشرقون» من النرجيلة الجليلة خدراً وسما، انهم لن يناموا على خيم الهزيمة.

خلال حرب الخليج الماضية امتلأت شوارع عمان والدار البيضاء وبعض شوارع لندن بالاساطير عن صدام حسين. وقال لي واحد من اثقف الناس ان نوستراداموس تحدث عن فارس عربي يأتي على ظهر فرس ابيض لكي يحكم العالم. ثم فتح احدى المجلات على صورة للرئيس العراقي وهو على حصان ابيض. وقال لي: «ماذا تقول في ذلك»؟. قلت، اقول في ذلك اللهم اشفق علينا جميعاً. ومنذ ان انتهت الحرب العسكرية الحالية في العراق، وانا اسمع كل اسبوع حكاية. ومن اناس اقدر ذكاءهم ومعرفتهم. وقال لي صديق عزيز انه ابلغ من مصادر لا يرقى اليها الشك بالحكاية التالية: «قال احد شيوخ العشائر في العراق امام محدثيه ان صدام لقيط تبنته العشيرة. وفي ليل اليوم التالي دخل صدام على الرجل ومعه ثلاثون مرافقاً. وامسك بعصا كان يحملها وانهال ضرباً على شيخ العشيرة ثم مضى». وانتظر يريد تعليقي وانبهاري. وقلت له ان لدي بعض الشكوك. فلو قال انسان عن صدام حسين انه لقيط، ثم وقع بين يديه، لما بقي حياً. ثانياً الرئيس العراقي لا يستخدم الا المسدس او البندقية. ثالثاً لا اعتقد ان الرجل الذي تطارده الآن قوات اميركا وعيونها وجواسيسها وجوائزها، لا هم لديه سوى ان يسمع رأي رجال العشائر فيه... ومن ثم الانتقام منهم.

وتطلع اليَّ الصديق العزيز بنظرة مشفقة ولم يعلق على مثل هذه السذاجات. وبعد اسبوع تناولت الغداء لدى زميل كبير في بيروت. وكان هناك وزراء ونواب وصحافيون. وقال احدهم ان صديقاً له شاهد صدام حسين «بأم عينيه» قرب الحدود السورية في العراق. وقلت له، ان الامر محتمل. كل شيء محتمل في الحياة. فاغتاظ من شكوكي وقال ان صديقه لا يكذب ولا يبالغ. واعتذرت. وقلت له ان لدي صديقاً شاهد منذ عشرة ايام اسامة بن لادن. وكان اسامة طلب منه الا يبوح بالمسألة لأحد.