مستجدات المرحلة أطاحت سياسات الأبراج العالية

TT

شيء طبيعي ان تتغير حركة «حماس» وتعيد النظر ببرامجها وخططها، وشيء طبيعي ان يتحلى «الإخوان المسلمون» الاردنيون بالمزيد من المرونة، وان يتخلوا عن موقف سابق، ويشاركوا في آخر انتخابات برلمانية، ويصبحوا جزءا من البرلمان الجديد، رغم ان هذه الانتخابات اجريت على أساس قانون «الصوت الواحد» الذي كان سبب مقاطعتهم للانتخابات السابقة ولو من الناحية الشكلية.

لا يضير الحركات الحية والفاعلة، فعلا، ان تعيد النظر ببرامجها وحتى بمنطلقاتها بين فترة واخرى، فالبرامج والمنطلقات ليست دساتير ربانية منزلة، والحركات التي لا تسعى وباستمرار الى التلاؤم مع الظروف والمستجدات هي حركات جامدة، وهي حركات متخلفة وغير جديرة بادعاء تمثيل حتى شرائح محددة من الناس.

في الاعوام الاخيرة، وبعد التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) على وجه التحديد، بات العالم كله، من الغرب الى الشرق ومن الشمال الى الجنوب، امام منعطف جديد في غاية الخطورة واصبح على الدول، كل الدول، وعلى الاحزاب، كل الاحزاب، وعلى حركات التحرر الوطني، كل حركات التحرر الوطني، ان تقف وقفة مراجعة جريئة وصادقة، وان تعيد النظر بكل برامجها ومنطلقاتها السابقة وعلى اساس التلاؤم مع المرحلة الجديدة، دون ان تفقد هويتها، ودون ان تذوب في هذه المرحلة الجديدة بصورة كاملة.

هناك فرق هائل بين الشجاعة والانتحار، فالسباحة ضد التيار الجارف المدمر في هذه اللحظة التاريخية هي بمثابة الانتحار، والانحناء للعاصفة عندما تكون العاصفة هوجاء على هذا النحو هو شجاعة ما بعدها شجاعة، وهو حكمة ما بعدها حكمة، وهو توفير لجهود وامكانيات ستكون الحاجة اليها ملحة في فترات لاحقة قريبة او بعيدة.

بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001، تحولت الولايات المتحدة الى ثور هائج في الملعب العالمي كله، ولذلك فإنها حكمة ما بعدها حكمة ان تبادر الدول كلها والاحزاب كلها وحركات التحرر كلها، الى اعادة النظر ببرامجها ومنطلقاتها، وان تتحاشى الاصطدام بهذا الثور الهائج الذي انسحبت من امامه دول كانت تعتبر دولا عظمى مثل فرنسا والمانيا والصين وروسيا.

غير مطلوب ان تصبح الدول والاحزاب وحركات التحرر ذيلا وتابعا للولايات المتحدة، ولكن المطلوب ان لا تبقى هذه القوى تقف في المربعات السابقة كأن العالم لا يزال يقف عند لحظة ما قبل تلك الساعة من الحادي عشر من سبتمبر، وكأن القوة الاكبر في العالم لم تتخل عن برامجها ومخططاتها وتصوراتها السابقة وتتحول من سياسة الدفاع الى سياسة الهجوم الكاسح.

قبل ان تعلن الولايات المتحدة حربها الكونية على ما تسميه «الارهاب الدولي» وتلف حولها معظم دول الكرة الارضية، وقبل ان يلصق اسامة بن لادن من خلال الاساليب الهمجية والدموية صفة الارهاب بالاسلام وبكل قوى التحرر الاسلامية، كان من الممكن ان تبقى حركة «حماس» تتمترس في خنادقها السابقة، وكان من الممكن ان يبقى «الاخوان المسلمون» في الاردن وغير الاردن خارج الاطر الشرعية الرسمية.

اما بعد ان تغيرت المعادلات الكونية وبعد ان ضاقت الارض بما رحبت، فإنه امر طبيعي ان تسارع حركة «حماس» وغيرها من قوى المعارضة الفلسطينية الى الاحتماء بسقف الشرعية الفلسطينية، وان يتخلى «الاخوان المسلمون» الاردنيون عن مواقفهم السابقة، التي ان كانت تلائم ظروفا سابقة فإنها لا تلائم الظروف المستجدة، وينضووا في اطار الشرعية الرسمية الاردنية.

لو ان حركة «حماس» لم تدرك ابعاد هذه المستجدات وابعاد استحقاقاتها وبقيت تتشبث بالمربع الذي كانت تقف فوقه، ولو انها لم توافق على «الهدنة» المطلوبة، واكثر من مستلزمات الهدنة المطلوبة، فإنها ستعرض نفسها، تنظيما وتوجهات، الى مواجهة قاسية وصعبة وقد تكون النتيجة نهاية مأساوية على غرار ما حدث لحركات تاريخية رفضت التأقلم مع المستجدات الطارئة، واصرت على السباحة ضد التيار، فجرفها التيار الى مستنقعات التاريخ العميقة.

شيء طبيعي ان تعيد «حماس» النظر وبسرعة بمواقفها وسياساتها بعد ان لمست لمس اليد أن رأسها اصبح في دائرة الخطر، بعد ان اغلقت حتى العواصم «الثورية» ابوابها في وجه قادتها من رموز الخارج، والزمتهم باغلاق افواههم قبل اغلاق مكاتبهم، وبعد ان خسرت كل هذه الاعداد من خيرة قياداتها العسكرية والسياسية في حرب الاغتيالات المتصاعدة التي شنتها اسرائيل عليها وعلى كل فصائل المقاومة الفلسطينية الفاعلة.

وشيء طبيعي ان يتلمس «الاخوان المسلمون» الاردنيون اعناقهم في ضوء ما يجري في المنطقة وفي العالم منذ الحادي عشر من سبتمبر، وان يبادروا وبسرعة للتخلي عن مواقف وسياسات سابقة قد تكون مقبولة ومفهومة في وقتها، وان يلجأوا الى الشرعية الرسمية لحماية انفسهم وليؤكدوا براءتهم من «الارهاب الدولي» وعدم وجود اية علاقة لهم لا برموزه ولا بتنظيماته ولا بسياساته ومنطلقاته.

قد يكون تحاشي حرب اهلية فلسطينية احد اسباب قبول «حماس» بالهدنة المعلنة، وهذا مهم جدا وعمل تشكر عليه ويحسب لها، لكن وعلى وجاهة هذا السبب واهميته، فإن اغلب الظن، بل ان المؤكد ان السبب الحقيقي هو تحاشي المواجهة الخاسرة مع الولايات المتحدة، وهو ان هذه الحركة التي لا يزال مستقبلها امامها ادركت ان الاستحقاقات التي ستدفعها ستكون جسيمة ان هي بقيت تتشبث بخنادقها السابقة، وان هي لم تبادر الى التأقلم والتلاؤم مع وضع وواقع ما بعد الحادي عشر من سبتمبر «ايلول» بكل معطياته واملاءاته وسلبياته «وايجابياته»!!.

وقد يكون تحاشي عزلة السنوات الماضية الست احد اسباب مراجعة «الاخوان المسلمين» الاردنيين لموقفهم من انتخابات 1997البرلمانية وقبولهم بالمشاركة في الانتخابات الاخيرة، مع انها كسابقتها اجريت على اساس قانون «الصوت الواحد» لكن المؤكد ان السبب الحقيقي ليس هو هذا السبب، بل انه الاسراع للخروج من الخنادق القديمة والتلاؤم مع الواقع الدولي الجديد، والشعور بأن البقاء خارج بيت الشرعية الرسمية سيكون مكلفا، وقد يؤدي الى ما بقي هذا الحزب يحاول تحاشيه على مدى عقود سابقة طويلة.

ان قبول حركة «حماس» بالهدنة المطلوبة، وبالشروط المطروحة التي عرضها الاميركيون ووافق عليها الاسرائيليون وقبلتها السلطة الوطنية الفلسطينية، يؤكد ان قرار هذه الحركة اصبح في يد التيار الواقعي في قيادتها، ويؤكد مقدرة هذا التيار على التعاطي مع المستجدات الدولية الصعبة والشائكة والمعقدة بمرونة وكفاءة واقتدار.

لو ان القرار في حركة «حماس» بقي في ايدي الذين يعتبرون الاكثر تطرفا والاقل مرونة، والذين يعتبرون «الواقعية» رجسا من عمل الشيطان، فإنه كان على هذه الحركة ان تنتظر مطاردات فعلية في كل مكان تتواجد فيه، وانه كان عليها ان تذهب الى مواجهة دامية مع حركة «فتح» ومع السلطة الوطنية ومع كل الفصائل المشاركة في السلطة الوطنية، ومع الشارع الفلسطيني ايضا، الذي اصبح اقرب الى القناعة بأن كل هذه التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني قد تكون مجانية، وقد تكون على حساب مصالحه العليا وعلى حساب برامجه الوطنية القابلة للتحقيق اذا لم تكن هناك وقفة للمراجعة والتلاؤم مع الواقع.

لقد قبلت حركة «حماس» بالهدنة، وقد تقبل بما هو اكثر من الهدنة، وقد تطور هذا الموقف وتقبل ان تصبح جزءا من السلطة الوطنية لأنها ادركت ان الاستمرار بمواقفها السابقة سيكون كارثة محتمة وسيؤدي الى نهاية مأساوية محققة.

الآن اصبح بامكان حركة «حماس» ان تلتقط انفاسها، وان تكسب سياسيا وتنظيميا، كما واصبح بامكانها العمل من داخل الاطر الشرعية الفلسطينية وعلى اساس انها شريك اساسي في اي انجاز وطني للشعب الفلسطيني، وعلى اساس انها ليست حركة شعارات مدوية فقط، بل وايضا حركة برامج واقعية قابلة للتطبيق والتنفيذ.

وما ينطبق على حركة «حماس» الفلسطينية ينطبق على حركة «الاخوان المسلمين» الاردنية، فالانعزال بالنسبة لهذه الحركة الاخيرة، وبعد كل هذه التحولات الكونية والاقليمية، سيكون بمثابة الانتحار المحقق، وسيكون بمثابة السباحة ضد تيار جارف، ولهذا فإن ما يجب فهمه وادراكه هو ان الامر لا يتوقف عند مجرد المشاركة في الانتخابات البرلمانية، بل هو تحول سياسي هام من الشعارات والاحلام العريضة الى الواقعية، وهو نزول مدروس من الابراج العالية الى ارض الحقائق والواقع.