واشنطن وباريس.. بين الديغولية والعالمية

TT

اليكم عبارات قالها رجل يمكن القول بأنه أفضل من شخَّص حالة الكون ونحن نقف عند عتبات القرن الواحد والعشرين. رجل أرى ان أقواله باتت تعبر اليوم، عن روح العصر. فقد كان يتحدث عن منظمة الأمم المتحدة حيث قال:

إن بلادي «لن تقبل مهما كان الثمن أن تقوم مجموعة من الدول التي تتكون بشكل أو بآخر من أنظمة مستبدة تجيد التسلط، أو مجموعة من الدول الحديثة التي تتحمل مسؤولياتها وتدير شؤونها بقدر أو بآخر، بإملاء قانونها علينا. فالأمم المتحدة عبارة عن منبر ساخر يتيح فرصة القاء الخطب الحماسية، وهو شكل مبالغ فيه، ومن أسوأ اشكال منابر التهديد».

ولكن مهلا، فالرجل لم يكن جورج دبليو بوش يقول ما يريد ان أمكنه ذلك. بل إنه تشارلز ديغول، الذي أطلق تصريحه هذا حين أثارت غضبه جهود الأمم المتحدة الرامية للتدخل في سياسات فرنسا الاستعمارية «السيادية».

استعنت بالاقتباس السابق لأنه يشير إلى ما ارغب في طرحه هنا: فهو يعرض لمحة مختصرة حول بوش، وربما حول رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، باعتبارهما آخر الديغوليين بين قادة العالم، مهما كان قصور المقارنة وعدم قبولها من قبل الرجلين أو من قبل الأمة الفرنسية، التي سيصيبها الرعب بلا شك من هذه المحاولة.

فديغول، الذي توفي منذ 32 عاما، يبدو حاضرا على الأرجح، وبصيغة سياسية غير واعية، في واشنطن ولندن وبرلين، وفي غيرها من الأماكن، في عصر باتت فيه العديد من الدول القومية تعيد تقييم هرولتها في مسارات العولمة.

هذه الدول باتت إلى حد كبير تتجه نحو مصادر قوتها الداخلية وتاريخها العريق، باعتبارهما يوفران الحماية لكل الأشياء الجيدة والقيمة. وهذا أنقى تعريف للديغولية يمكنني التفكير فيه الآن.

شاء البعض أم أبوا، من المؤكد ان معظم ما يدور في عالم اليوم بات يتخذ طابعا ثنائيا. فوزارة دفاع دونالد رامسفيلد ووزارة الخارجية الفرنسية، تعملان بشكل منفصل، وبنفس الاجتهاد من أجل الالتفاف على حلف شمال الأطلسي (ناتو) وحشد الحلفاء كلا على حدة.

وها هي الولايات المتحدة توقع على اتفاقيات تجارية ثنائية، تشير إلى غياب الاهتمام بمفاوضات التجارة العالمية المتعثرة.

ومن التجارة إلى الدفاع، يشهد العالم مرحلة عودة جديدة لإضفاء الصبغة الوطنية على الاستراتيجيات والخطط المتعلقة بمجالات هامة.

هل كان هذا سيحدث لو لم يقرر 19 متشددا عربيا التحليق بنفاثات نحو ناطحات سحاب مانهاتن ومبنى وزارة الدفاع الأميركية، والتسبب في إشعال الحرب ضد الإرهاب العالمي؟

نعم بالتأكيد، أستطيع أن استمع إلى جنرال كل الفرنسيين وهو يقول ذلك بنبرة غضب. فأنتم معشر الأنغلو ـ أميركيين، لم تنصتوا على الإطلاق ولم تولوا اهتماما يذكر لأهم مجريات التاريخ. (وقد يتمتم قائلا: أو بتاريخنا).

ويبدو ان السلوك الديغولي الفائق الشدة تجاه التعصب القومي بدأ ينتقل بشكل طبيعي إلى ابناء تكساس، خاصة لو تأملنا الآتي:

لقد وصف ديغول ذات يوم دوره الذي يقوم به، بدور الطبيب النفسي الذي يتعامل مع مشاعر فرنسا المؤلمة تجاه الهزيمة التي لحقت بها خلال الحرب العالمية الثانية، وتجاه فقدانها لامبراطوريتها الاستعمارية. وها هو بوش منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) يقوم بالدور نفسه من ممارسة التطبيب النفسي، وإن كان بدرجة مختلفة.

يضاف إلى ذلك، ان احتياجات الحرب ضد الإرهاب العالمي، ساهمت، على الأقل في بداية الأمر، في تضخيم وتحريك تراجع أهمية المنظمات الدولية والإقليمية التي سخر منها ديغول. وبينما كان الديبلوماسيون يتجادلون بشأن العراق وتعدد الأقطاب، كانت عمليات تبادل المعلومات بين أجهزة الشرطة والمخابرات في واشنطن وباريس قد تحسنت بالفعل ـ وبشكل شمل قضايا ثنائية للغاية.

وفي لندن، أمكن لبلير حشد معارضته لدستور فيدرالي يقضي ببسط الاتحاد الأوروبي، مستندا إلى تعبير ديغول الذي أوضح ان أوروبا تدار من قبل حكوماتها الوطنية، وبأنها ـ «أوروبا من دول»، وليس اوروبا التي تديرها بروكسل.

في أسلوب قيادته يعكس بلير عناد ديغول، وثقته في رؤيته الخاصة للعالم، واستعداده لإلقاء محاضرة في بلاده بشأن جوانب القصور فيها، حتى لوكان ذلك على حساب مستقبله السياسي.

وبشكل متناقض، يبدو ان الديغولية في باريس هي التي باتت تشهد اليوم تراجعا كنهج ميداني. فقد وصفت جريدة «لوموند» اليومية، مؤخرا السياسة الخارجية للرئيس جاك شيراك بالتي «وهبت نفسها للعالمية، وللدفاع عن الأمم المتحدة، خاصة ضد استخدام القوة من طرف واحد... إضافة إلى إقامة عالم متعدد الأقطاب يمكن لأوروبا أن يكون لها شأنها فيه أمام الولايات المتحدة». أجل أوروبا، وليست فرنسا.

يشير جان لاكوتيور، كاتب سيرة ديغول، إلى هذا التناقض من خلال حوار خيالي بديع بين ديغول وشيراك، نشره في العدد الصيفي من المطبوعة الرباعية «لو ديبات» (النقاش) ـ تصدر باللغة الفرنسية ـ يقول فيه ديغول لشيراك:

لقد أحسنت صنعا بمعارضة الهيمنة الأميركية و«العدوان» الذي لم يعد له جيدا ضد العراق، لكنك أهدرت نقطة هامة: «فعندما قررت الانسحاب من القيادة المشتركة لحلف ناتو خلال عام 1966، حددت انني لم أرغب في الإنشقاق من الحلف بحد ذاته».

ووفقا لما جاء في نص لاكوتيور، فقد أشار ديغول إلى أنه كان يؤكد في كل مرة، عزمه على التصرف بشكل مستقل، واكد، بوعي كذلك، على التعاون مع واشنطن بشأن القضايا الأخرى. كما انه توصل إلى طرق كفيلة بتأكيد التزامه بتحالف الدول الحرة التي كانت تواجه الاستبداد السوفياتي.

في الحوار الخيالي يقول شبح ديغول: «ان أية استراتيجية جريئة يجب أن تستند الى «أساليب متبصرة». وتلك نصيحة جيدة جاءت من قبل انصار العالمية النشطاء في باريس ومن الديغوليين الجدد في واشنطن الذين يحاولون معالجة علاقة مشوشة تبدو في أمس الحاجة للتوازن.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»