بعد الهدنة حان موسم الجهاد السلمي

TT

ما زالت الهدنة في فلسطين هشة، كونها تمت بين اطراف فلسطينية نظرياً ولكنها بين كل الاسرائيليين وكل الفلسطينيين عملياً، لذلك يسهل نسفها عمداً او عبر سوء الفهم. رغم ذلك فإسرائيل طرف رئيسي في الهدنة وتنفذ بعض بنودها، ولو ببطء وتشويه يراد منه اغضاب اطراف فلسطينية لتقوم بنسف الهدنة ومنح اسرائيل فرصاً اضافية لتوجيه الضغط والنقد الدولي الى الفلسطينيين.

عموماً الهدنة جاءت كنتيجة لإنجاز فلسطيني هائل في الصمود، وممتاز في المقاومة الشعبية، وجيد في المقاومة المسلحة، وحسن سياسياً، وضعيف اعلامياً. وبدون هذا الفعل لما جاءت الهدنة كمقدمة لحل سياسي (خارطة الطريق). ولو كان الاداء السياسي والاعلامي في مستوى الصمود الشعبي المقاوم، لكان الحل السلمي المطروح افضل.

الحقيقة الجلية انه بدون المقاومة بكل انواعها لما كان هناك اعتراف بقضية فلسطينية تحتاج الى الحل. مرت القضية الفلسطينية بظروف وسنوات طويلة من الهدوء المقاوم من دون ان يتحرك الحل السياسي، بل اسُتغل هذا الهدوء للادعاء بعدم وجود مشكلة، بل عدم وجود الشعب الفلسطيني نفسه، حسب تعابير جولدا مائير المتكررة حتى عام 1969. وبعد اخراج المقاومة الفلسطينية من الاردن (1971) ومن بيروت ولبنان (1982) مرت القضية بهدوء طويل لم يتبعه حل سلمي، الامر الذي اكد مجدداً ان الاحتلال الصهيوني وأساليبه هو العثرة في طريق السلام.

على الطرف الآخر فالحقيقة الجلية الثانية هي ان العنف الثوري الفلسطيني هو الذي كان يحرك الحلول السياسية. ولا يخفى على المراقب النبيه ان العنف الفلسطيني المميز جاء لينقذ القضية على الدوام في امرين: الاول عندما تقترب القضية من الابادة السياسية، والثاني عندما لا يحترم الاسرائيليون قواعد اللعبة الدولية في مقاومة الاحتلال ويلجأون الى القهر والعقاب المدني واساليب الابادة المنظمة للمجتمع. آنذاك يلجأ الفلسطيني لأسلوب هدم المعبد، علي وعلى اعدائي يا رب.

علامات العمل الفلسطيني، التي وصفت بالارهاب، كانت في افتتاح عهد خطف الطائرات وتوسيع النضال خارج المنطقة، ثم في مرحلة العمليات الانتحارية ضد المدنيين وغيرهم في اسرائيل كرد على التفرد الارهابي الاسرائيلي. من يراجع تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني سيجد ان الصهاينة هم الذين مارسوا الارهاب الفظيع ضد المدنيين لتحقيق غايات سياسية، وذلك سواء منذ بداية الصراع، او في بداية وخلال كل مرحلة متجددة منه.

حقيقة ثالثة بهذا الصدد يمكن تلمسها بوضوح: عندما يكون هناك اهتمام عالمي وهادف وواعد بالعدل والسلام، لا توجد أي عمليات مقاومة مسلحة فلسطينية عادية او من الطراز العنيف. والعكس صحيح ايضاً، اذ مع تلاشي الاهتمام العالمي، كان العنف الفلسطيني يتصاعد ويتشعب ليصل إلى كل من تعتبرهم الاسطورة الفلسطينية من المسؤولين عن المأساة. بمعنى آخر لا فكاك للعالم من مسؤولياته، وكل من يشجب ويرفض العنف عليه العمل الدائم من اجل انجاز السلام، وكلما حدث ذلك كانت هناك على الدوام هدنة بشكل او بآخر، لأن اسرائيل لا تخالف الغرب، والفلسطينيون تواقون للسلام العادل.

هناك عشرات الاسباب الفرعية لغياب، او لفشل، السلام وتعثره في فلسطين، لكن الاسباب الرئيسة يمكن الاجتهاد بتحديدها في التالي: قوة الصمود والتصدي الفلسطيني التي منعت الانهيار. ويقابل ذلك قوة اسرائيل العسكرية وضخامة الدعم الاقتصادي الخارجي الذي يؤهل ويسهل محاولاتها لأخذ اكثر ما يمكن اخذه. وسبب آخر لغياب فرص السلام نجده في اشتراك كل من الفلسطينين والاسرائيليين في غياب الهدف المعقول، بل في حالة اسرائيل لا توجد ملامح جلية للهدف المنشود. هكذا كلما جلس الطرفان للتفاوض فإنهما يغرقان في التفاصيل لأنهما في حقيقة الامر لا يتفقان على شكل الهدف النهائي، وكل طرف متأكد ان الآخر يكذب ويدجل في سبيل التحايل على الاطراف الخارجية وكسب تأييدها، بينما هو في حقيقة الامر لا يلتزم بما يقول.

حتى يعم السلام السلبي فلا بد من تركيع طرف للطرف الآخر، وهذا ما فشل به الجميع للآن. وحتى يعم السلام الايجابي فالقضية بحاجة الى حل عادل للفلسطينين ومنصف للمنطقة. الحل الوحيد الذي كان جلي الملامح والتفاصيل والهدف، والذي يستحق المراجعة والدارسة، هو قرار التقسيم لعام 1947. ذلك القرار لا يحتاج لتفاوض بل للتنفيذ، اذ فيه حلول كل المشاكل القديمة السابقة والحديثة اللاحقة. وكل مشاريع الحلول التي لحقت لم تكن جلية الهدف والتفاصيل، وكانت تهدف للتوضيح عبر التفاوض بين طرفين يريد كل منهما اكثر مما يريد الآخر تقديمه، ولذلك حكم عليها بالفشل. حل «خارطة الطريق» استوعب المعضلة ولكنه لم يحلها، فقد حدد الهدف بدولتين متجاورتين بسلام، ولكنه لم يحدد حدود كل دولة، ولذلك زاد عدد المستوطنات بدل ان ينقص، وقام الجدار العنصري لفرض امر واقع، وزادت لذلك ولغيره من الاسباب هشاشة الهدنة.

لو كانت المقاومة المسلحة الفلسطينية في مستوى التصدي والصمود الشعبي، ولو كان الاداء السياسي والإعلامي افضل حالاً، لكانت ظروف هذه الهدنة افضل بكثير، وفرص السلام الايجابي اوفر. كان من الممكن اخراج كل الاسرى، واعلان قبول «خارطة الطريق» ضمن شروط مثل: اقامة الدولة في موعدها المحدد (2005) وضمن حدود قبل حرب حزيران بما فيها القدس وبدون أي مستوطنات وتواصل ارضي بين الضفة والقطاع وسيادة تامة وعودة اللاجئين. وضمن شرط التزام من الطرفين بعدم التعرض مطلقاً للمدنيين وللبنية التحتية للبلاد والاقتصاد في حالة الخلاف او الحرب.

لكن المقاومة الفلسطينية المسلحة كانت مهلهلة دوماً، ولولا العمليات الانتحارية التي عززت الصمود الشعبي البطولي لما امكن انجاز تلك الهدنة اصلاً. وما عطل الفائدة الفلسطينية اكثر هو الكساح السياسي والموت الاعلامي الرسمي. فالسياسة لم تُحسن المناورة والاستفادة من المقاومة، ولم تنجح في تحديد الزمن المناسب لاختيار الهدنة التي تأخر قبولها وأضر بالمصلحة الوطنية، او فلنقل قلل فرص الفائدة كثيراً.

على عكس الفلسطينيين تعرف اسرائيل كيف ومتى تفعل الشيء او تمتنع عنه، بل انها بارعة جداً في تفعيل العمل العسكري مع السياسي والاعلامي. ذلك النجاح يعود للكثير من الاسباب مثل امتلاك الادوات الحربية والسياسية والاعلامية، ومركزية القرار، ووفرة الاجهزة والمال وكثرة الانصار، وسرعة الاستدراك والاستفادة من النصح والتجارب. لكن براعة اسرائيل تتمثل ايضاً في تجديد تحديدها للهدف المراد والاسلوب المتبع لذلك. وهذا على الاقل ما يستطيع الفلسطينيون عمله ايضاً.

كل محاولات التنسيق، بين السياسة والعسكرية والاعلام فلسطينياً، كانت تؤدي الى التنازلات، ولذلك يصعب شحذ همم القتال والتضحية اذا ربطت علناً بحل سلمي مبهم. لكن في النهاية فالشعب الفلسطيني بحاجة في هذه المرحلة الى تحديد هدفه، والوسائل المؤدية للهدف. وحتى لو لم يتم التوافق على الهدف النهائي الافضل، فلا بد من تحديد الوسائل لنيل الهدف الادنى المتفق عليه.

لقد اثبت الفلسطينيون امتلاكهم لأسلحة الصمود والفعل المتنوع المؤثر عسكرياً، وربما عليهم الآن الاتفاق على استمرار الصمود وتطوير اساليب مقاومة سلمية شعبية في فترة الهدنة، والاحتفاظ بالعمليات الانتحارية في الاحتياط كسلاح رادع، والتواصل سياسياً واعلامياً، عبر المقاومة السلمية، مع الرأي العام العالمي والاسرائيلي لانهاء الاحتلال عبر تطبيق قرارات الامم المتحدة بضغوط محلية ودولية غير حربية. أي عدم الجلوس بانتظار تطبيق «خارطة الطريق»، وعدم نسف المرحلة بعمليات عنيفة. بمعنى آخر، تفعيل مقاومة شعبية سلمية والاستفادة بالتالي من كل الخروقات الاسرائيلية للهدنة ونسفها لفرص السلام، فإسرائيل لا تعيش على القوة فقط، ولكنها تتغذى بالدعم والتفهم العالمي عبر تزييفها للحقائق.