من البحر إلى البحر.. ولكن لأية أهداف؟

TT

مقال صالح القلاب المعنون بـ «من البحر الى البحر»، دفاعا عن المملكة الاردنية الهاشمية، التي طرحت مشروع قناة العقبة لربط البحر الميت والاحمر في المنتدى الاقتصادي العالمي الاخير، انطوى على مغالطات حول اهداف المشروع، ووصف المشروع وتاريخه والجهات التي ينسب اليها وغير ذلك من حقائق.

ان مسألة انشاء قناة بين البحرين، الميت والاحمر قضية بدأت منذ عام 1850 وتتجاذبها عدة اطراف اقليمية ودولية تأييدا او اعتراضا منها:

مصر (صاحبة قناة السويس).

واوروبا (التي قد تتضرر بالاتجاهات العربية لتسييس منافذ العبور مثل تسيسها لتجارة النفط).. واسرائيل (التي تسعى للمنافسة في المنطقة على حساب المنشآت السابقة لانشائها).. والاردن وفلسطين اللذان يريدان بدائل طاقة نظيفة ومياها محلاة.

ودول الخليج التي تسعى لمعابر نفطها وغازها بأقل التكاليف.

واميركا التي تريد لاساطيل حفظ امن تجارتها وامنها القومي اقصر الطرق لردع بؤر مخاوفها.

ومن هنا برز التفكير في بناء قناة موازية لقناة السويس تخدم الاغراض الحيوية المتباينة لكل الاطراف وليست قناة تسعف البحر الميت قبل ان ينشف او تولد كهرباء لترويج السياحة في الاردن.. ان المسعى هو انشاء قناة ربط حقيقية موازية لقناة السويس في استيعاب الحجم الدولي للخدمات المطلوبة منها، ولن يقف التمويل في سبيل تحقيقها مهما بلغ حجمه.

لقد بدأ التفكير في هذه القناة بعد افلاس الخديوي عباس وتدخل بريطانيا وفرنسا لتسلم ادارة القناة حتى لا تضيع استثماراتها او تتدهور مشروعات تطويرها، فتؤثر على حركة مصالحهما التجارية والاستعمارية فيما وراء البحر الاحمر. وكان ابرز من ساهم في ملحمة الحفاظ على هذه المصالح المتشابكة المهندس البريطاني وليام ألان، بكتابه «البحر الميت»، الصادر في عام 1850، وفيه اقترح انشاء قناة رديفة لقناة السويس تخرج من خليج حيفا الى رأس العقبة عبر البحر الميت ولم يكن واردا ـ آنذاك ـ أي قلق على «نشاف» البحر الميت.

واستفاد بنيامين هرتزل من الخرائط التي وردت في الكتاب ليضع كتابا آخر عن نفس الموضوع نشره في عام 1902 بعد ثلاثة وخمسين عاما من صدور الكتاب الاول.

وادت الكفاءة العالية التي سيرت قناة السويس الى صرف النظر عن انشاء القناة الرديفة، الى ان أمم عبد الناصر قناة السويس بعد ثلاثة وخمسين عاما اخرى، وافزع الغرب باحتمالات تسييس القناة، واصبح الفزع مناما مرعبا بعد تسييس ضخ النفط في عام 1973.. وهنا بعثت فكرة القناة الرديفة من جديد مع مشاريع اخرى مساندة.

ولعل الدور الذي لعبته اسرائيل باحتلال سيناء وبناء خط بارليف الدفاعي على ضفة القناة الشرقية وتعطيل حركة العبور فيها باغراق عدة سفن في مجراها الرئيسي، كان من اهدافه حث المجتمع الدولي على اعادة النظر ـ جديا ـ في مشروع انشاء قناة رديفة للسويس، تشق في الاراضي التي احتلتها اسرائيل، وتحت حمايتها، لتقدم الخدمات باشراف دولة تنسب نفسها للغرب الديمقراطي وتدافع عن مصالحه في المنطقة.

وبذلت اسرائيل جهودا مكثفة لتحديث دراسات جدوى المشروع السابقة، وتمويله ومردوداته المالية وتكنولوجيا تنفيذه بين 1973 و 1993، بتشكيل لجان ووفود مباحثات مع دوائر صنع القرار والشؤون المالية والتجارية في اوروبا واميركا واليابان مستغلة سوابق التأميم وتجميد ضخ النفط وإلحاح مصالح الغرب في الشرق الاقصى.

اوائل عام 1993، وكنت حينذاك سفيرا في ايطاليا، اعمل على وضع كتاب حول العلاقات السودانية ـ المصرية، استوقفني خبر أسر لي به صحافي ايطالي عن تكليف احدى اكبر الشركات الهندسية الايطالية للقيام بمسوحات ميدانية لتحديد مسار قناة رديفة لقناة السويس تربط بين الساحل الاسرائيلي والبحر الميت وخليج العقبة، تصلح للملاحة الدولية وتكون سببا في انشاء مصالح حيوية تجعل شعوب المنطقة: اسرائيليين واردنيين وفلسطينيين «يترددون في تخريب فرص السلام» التي كانت تخبز في مدريد واوسلو، فيما بعد.

وكانت قد توفرت لي معلومات ـ من قبل ـ عن مشروع سعت وما تزال تسعى له شركات اميركية معينة لانشاء خط ضخ لنفط الخليج وغازه الطبيعي عبر السودان الى الساحل الافريقي الغربي، وتبين لي ان المسعى الاميركي يمضي وفق قرار استراتيجي يرمي لتجريد مصر من السيطرة على حركة الغرب التجارية والعسكرية العابرة لقناة السويس واضعاف عائداتها المالية السنوية لتقوى فرص افتراسها بالمساعدات الاجنبية.

وبعد سفري الى ميناء باري الايطالي ومعاينة ما كان يجري هناك، كتبت تقريرا مفصلا لحكومة السودان يضعها على اعتاب ما يجري وراء الكواليس، كان ذلك في اوائل مارس 1993.. وفي يوم 4 مايو 1994 كشفت جريدة لااستامبا الايطالية الواسعة الانتشار حقيقة الموضوع مع خريطة توضح مسار القناة المطلوب حفرها، حسب عقد التمويل الذي نسبته الى جهة مالية دولية معينة، وتبين الخريطة ان مسار القناة يتبع خطا في الاراضي التي استولت عليها اسرائيل عام 1948، وقد علقت الجريدة تقول، ان هذا مشروع لقناة تربط بين البحرين الميت والاحمر، وبالتالي تربط بين اسرائيل ومصر والاردن لاغراض تجارية Business.

هذا المشروع ليس كما صوره القلاب مجرد عمل بيئي واسعاف للبحر الميت من «النشاف». انه عمل استراتيجي، خطط له ليحدث تحولا استراتيجيا في سياسات واقتصادات المنطقة، ويحول اسرائيل الى شريك فعلي فيها، ويضعف قبضة مصر عليها، كقوة كبرى في المنطقة.. وربما يكون طرح الاردن للمشروع مجرد سيناريو يخص الاردن، وهو بهذا المعنى لا ينفي تخطيط الآخرين الاستراتيجي.

* سفير سوداني سابق