عراقة الخيار

TT

سجلت انتخابات الكويت في مجملها وجوهرها، هزيمة محزنة لاحدى اهم التجارب الديمقراطية في العالم العربي: في الوجه الاول، تكرس تقديم الخيار القبلي على الخيار الوطني في واحد من اقدم المجتمعات المدنية في الخليج، وفي الوجه الثاني حقق المكاسب الرئيسية التيار او الاتجاه الذي يرفض مبدأ الممارسة الديمقراطية ويرى فيها بدعة صهيونية، او شيئاً من هذا القبيل.

والى جانب هذا وذاك الحقت الهزيمة المتوقعة بالتمثيل القومي، وهو مسار تدريجي بطيء، اخرج من البرلمان الكويتي ابرز وجوهه واكثرهم علاقة بالناس وقضاياهم واكثرهم انخراطاً في الشأن القومي. ولكن الى اي مدى يمكن ان ينطبق مبدأ التحليل العادي على نتائج انتخابات الكويت؟ اي الى اي مدى يمكن ان نرى في خسارة عبد الله النيباري واحمد الربعي هزيمة للتيار القومي؟ ان نسبة الناخبين، او الذين يحق لهم التصويت في الكويت، لا تتجاوز 15% من المواطنين، بمن فيهم طبعاً المواطنات. ومن ناحية اخرى طغى على المعركة طابع «البازار» والسوق الخلفية اكثر من طابع الخيار. وغابت القضايا وحضر الدلالون، او السماسرة. ولذلك يبدو فوز بعض الليبراليين وعودة رجال مثل محمد الصقر ومشاري العنجري خرقاً لقانون الجاذبية.

غير ان ثمة منتصراً كبيراً يجب ان نتوقف عنده والا نهمل قدره. هذا البطل هو ادراك الدولة الكويتية الدائم بأن عقل المواطن ثروة لا يجوز العبث بها. ولذلك تركته يفعل ما يشاء وتركته يسلي النفس «بفولكلور» المهرجانات المضحكة او الثقيلة، لكن الاهم انها تركت له حرية الخيار. وبذلك كانت العنصر الديمقراطي الوحيد، او الاهم على الاقل. وفي هذا تظل الانتخابات الكويتية اكثر كرامة من معظم حفلات ومساخر الاقتراع القائمة في العالم العربي. انها انتخابات يصدقها ناخبها نفسه ويصدقها حاسدوه في العالم العربي، حيث تعرف النتائج قبل موعد الانتخابات، وحيث تتكرر الوجوه في رتابة الليل والنهار، وقد انعكس هذا التسطيح على النائب العربي فتبلّد واستملك. وشعر انه اصبح في امكانه ان يمضي العمر تحت قبة المجلس من دون ان يدلي حتى بتصريح، او ان يرفع سبابة في باب الاعتراض.

الحقيقة ان الممارسة في الكويت هي الوجه الاكثر نضارة للديمقراطية. ففي الكويت وحدها يستفتي امير الدولة رؤساء البرلمان السابقين في شأن فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء. وفيها وحدها يدعو رؤساء التحرير لكي يطلعهم على القضايا الوطنية الدقيقة ويطلب مساعدتهم في معالجتها، وفي الكويت طلب احد وزراء الاعلام تعطيل صحيفتين كبريين بتهمة التعرض للامير، فأقيل الوزير وخطوته الصبيانية الاسترضائية التي كادت ان تهز البلد.

الديمقراطية؟ هذه هي الديمقراطية التي تدعو الناس الى الاختيار وتقبل بخيارهم. وقد يحمل هذا الخيار رجالاً يرون في الديمقراطية التي اوصلتهم عدوا، لانها قد توصل سواهم ايضاً. وهذا ثمن من اثمان الديمقراطية. فبلوغها يتطلب اعواماً طويلة من الممارسة، وليس في ليلة وضحاها تصبح حرية البي.بي.سي اقوى واهم من رأي الحكومة التي تملكها. وما جرى في الكويت كان مضحكاً احياناً ومسيئاً احياناً، لكنه كان عملاً ديمقراطياً بامتياز. لقد افقدنا بعض من نحب وجاء ببعض من لا نريد، لكنه اعطانا درساً في قبول خيارات الناس.