اعطني الناي وغنّ

TT

يحتل الناي مكانة خاصة في قلوب الموسيقيين والشعراء من بين كل الآلات الموسيقية الأخرى. انني اجله لسبب خاص وهو ان الناي آلة الفقراء والمسحوقين. فأي واحد منهم يستطيع ان يقطع قصبة ويثقب فيها بضعة ثقوب ويحصل على آلة موسيقية بالبلاش. وكل ذلك على خلاف الآلات الموسيقية الأخرى غالية الثمن. انها آلات المتنعمين. يستطيع الفلاح ان يشد هذه القصبة بقصبة أخرى مشابهة فيحصل على الناي المزدوج، ما يسمونه في الشام بالمجوز وفي العراق بالمطبق، انه آلة الفلاحين والرعاة. ويظهر ان هناك تجاوبا روحيا بين الناي وعازفه الفقير. فالناي يحس بآلام صاحبه الفقير فيتجاوب مع آلامه ويعطينا الأنين الحزين الذي اشتهرت به آلة الناي.

في تلك القصيدة الشهيرة للشاعر الزاهد الصوفي جلال الدين الرومي يتساءل الشاعر لماذا يئن الناي هكذا؟ فيجيب الناي لأنهم قطعوني من الغدير الذي كنت فيه وفرقوني عن بقية اصحابي من القصب فأحن اليهم. وهكذا اصبح الناي ايضا آلة المشردين والمهجرين الذي نزحوا عن ديارهم وقضوا بقية حياتهم يئنون حنينا لمسقط رأسهم ومربع طفولتهم وصباهم. كان منهم جبران خليل جبران الذي هاجر من لبنان الى امريكا، وفي مهجره اعطانا تلك القصيدة الخالدة «اعطني الناي وغن، فالغنا لحن القلوب، وانين الناي يبقى بعد ان تفنى الذنوب».

وكان منهم ايضا، الموسيقار والبروفسور علي جهاد راسي، بدأ مشواره الموسيقي بالعزف على الناي صبيا في قريته الصغيرة بلبنان. ورحل منها الى امريكا حاملا معه هذه القصبة الصغيرة. وما زال يداريها وتداريه، يعلمها ويتعلم منها، حتى اصبح استاذا للموسيقى الاثنية في جامعة كاليفورنيا.

ومنها عاد في الاسبوع الماضي ليعطينا هذه الحفلة الرائعة في معهد الكومنولث بلندن التي تفضلت بها علينا تلك المؤسسة الانسانية الرائعة مؤسسة المدد الخيرية تحت شعار «كونسرت للسلام».

كنت قد كتبت قبل ايام فقلت ان الموسيقى خير جسر بين الشعوب. وهذه الحفلة رغم اقتصارها على موسيقيين عرب واكراد وانحصارها في اطار الموسيقى العربية لمنطقة الشام، فقد كان فيها من الغذاء الروحي ما انعش الحاضرين من شتى الملل. وفيها سحرنا هذا الموسيقار الفذ بتنوع ألحانه وآلاته واصالة مؤلفاته. وما ابرع افتتاحيته للحفلة بانشاد ما كتبه جلال الدين الرومي عن الناي وما تغنى به جبران خليل جبران عن انين الناي. وراح يتنقل من نوع الى نوع من آلات الناي حتى انهى هذا الاستعراض الفني للغة الناي بعزف ايقاعي راقص من آلة الناي المزدوج في نغم من انغام الدبكة الشائعة في حفلات العرس العربية.

الجوزة آلة شعبية بروليتارية أخرى يصنعها العراقيون من قطع قشر جوزة الهند وتركيب وتر بدائي عليه. انها آلة رئيسية في المقام العراقي غير معروفة في البلدان العربية الأخرى. صغيرة وبسيطة وبدائية ولكنها تصرخ صراخ عاهرات البلغار. امسك بواحدة منها عازف المقام العراقي البارع محمد علي قمر فأعطانا عزفا منفردا سحر المستمع الشرقي والغربي وكشف للجميع آفاق الموسيقى الشرقية الواسعة.