حدود التغيير أمريكيا ومحليا

TT

في أقل من عامين ومنذ هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) قامت الولايات المتحدة وبصورة مباشرة بتغيير النظام في أفغانستان، العراق، والى حد ما في قيادة السلطة الفلسطينية، بفرض تعيين رئيس للوزراء وتهميش ياسر عرفات. وتتجه جهودها الآن الى القارة الأفريقية لفرض تغيير للنظام في ليبيريا وربما ممارسة ضغوط بأمل الاطاحة بالرئيس الزمبابوي روبرت موجابي، وهناك احتمال كبير أن تصل الموجة الى السودان، فاذا توجت مباحثات السلام الجارية الآن بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية في ضاحية ناكورو الكينية بالنجاح، فان أحد النتائج العملية لأي اتفاقية سلام احداث تغيير هيكلي في بنية النظام، مع الفارق أن قوى الانقاذ السياسية ستكون من مكونات النظام الجديد ولن تقصى عنه كما هو الأمر مع طالبان وصدام حسين، لكن التفرد بالسلطة الذي استمتعت به على مدى 14 عاما سيصل الى نهايته، وهذه هي أحدى معضلات المفاوضات الجارية.

واذا كانت هذه مكونات الصورة العامة، الأمر الذي يعطي الانطباع بأن القدرة الأمريكية على تفعيل التغيير سائرة في طريقها كما هو مخطط لها، فان الواقع أكثر تعقيدا من ذلك. وربما تعطي الحالة الليبيرية مثالا جيدا. فمبدأ بوش الذي عبرت عنه استراتيجية الأمن القومي الجديدة بالضربات الاستباقية وتغيير الأنظمة، وتم تنفيذها بصورة واضحة في العراق، ووجه بمعارضة حتى من الحلفاء الأوربيين وروسيا، الأمر الذي اضطر الادارة الأمريكية الى التصرف خارج الشرعية الدولية.

المفارقة انه في حالة ليبيريا تصاعدت الدعوات مطالبة بالتدخل الأمريكي من أهل البلاد، ومن الدول الأفريقية خاصة تلك المجاورة التي تأذت من استمرار الحرب الأهلية على مدى عقد ونصف من الزمان، بل ومن الدول الأوروبية وحتى الأمم المتحدة، ورغم الرابطة الخاصة التي تربط الولايات المتحدة بليبيريا، كون الجمهورية تأسست بواسطة الرقيق المحررين الذين كانوا في الولايات المتحدة قبل قرن ونصف من الزمان، الا ان بوش لا يزال يقدم رجلا ويؤخر أخرى. ففي البداية وضع شرطا أوليا بتنحي الرئيس الليبيري شارلس تايلور عن السلطة، ثم أرسل وفدا أمنيا لتقييم الوضع على الطبيعة قبل الزج بقوات أمريكية في ذلك المستنقع.

التردد الأمريكي يعود الى ثلاثة أسباب رئيسية: أولها مدى الأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها ليبيريا في أطار النظرة الكونية للولايات المتحدة لمصالحها حول العالم، وثانيهما الخوف أن يؤدي نشر قوات أمريكية الى الوقوع وبدون رغبة أو استعداد في متاهات التدخل العسكري لأسباب أنسانية، والجراح الأمريكية مما حدث في الصومال مطلع العقد الماضي لا تزال طرية، وأثقال عنق واشنطون بالتزامات يمكن أن تكون نتائجه وخيمة على المدى البعيد، وثالثا تحديد وجهة للخروج مسبقا وقبل نشر القوات كي لا يصبح الوجود الأمريكي تورطا لغياب البديل.

من الواضح أن ليبيريا لا تشكل أي أهمية في الاستراتيجية الأمريكية، وأن التحركات الجارية حاليا فرضتها زيارة بوش الى أفريقيا، وربما لو لم تتم الزيارة في هذا الوقت بالذات وخوفا من أن تخطف ليبيريا الأضواء من الأهداف الرئيسية للزيارة لما انشغلت بها الادارة، وهي لم تنشغل بها كما لم ينشغل بها الرئيس السابق بيل كلينتون الذي زار أفريقيا في العام 1998.

واذا كان عدم الرغبة في التدخل لأسباب انسانية يتسق مع الحملة الانتخابية لبوش الذي اطلق تصريحات وقتها تشير وبصريح العبارة الى ان أفريقيا لا تقع في دائرة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، الا ان تبعات هجمات أيلول أوضحت بجلاء ان الفوضى البعيدة يمكن أن توفر الأرضية اللازمة لتفريخ بيئة معادية للولايات المتحدة يمكن أن تكون مؤذية كما حدث بالفعل، مع ملاحظة نمو المشاعر المعادية للولايات المتحدة، بدليل تخصيص واشنطون مبلغ 100 مليون دولار لمكافحة الارهاب في بعض الدول الافريقية واعلان الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا أنه لن يلتقي بوش اثناء زيارة الأخير الى جنوب أفريقيا.

على ان الاكثر أهمية، هو مدى تحمل واشنطون لنشر قوات أضافية في مناطق أخرى، حتى مع الاقرار باهميتها الاستراتيجية. والاشارة الى ما أطلق عليه المؤرخ بول كينيدي في كتابه عن قيام وسقوط الدول العظمى تكلفة قيام الدولة العظمى بمهامها. فعندما تتصاعد الكلفة المادية والبشرية تتآكل قدرة الدولة العظمى على القيام بمهامها، الأمر الذي يفتح الباب أمام تحديها من قبل قوى أخرى، ومن ثم اعادة تشكيل توازن القوى من جديد.

ولهذا بدأ التركيز في الآونة الأخيرة على كيفية استنباط آلية للخروج من المناطق التي تتدخل فيها الولايات المتحدة كما هو الحال مع العراق، حيث يتصاعد النشاط المعادي. ورغم أن بعض المحللين العسكريين يشيرون الى ان الجند العاملين هناك انما أتوا باختيارهم عكس ما كان عليه الحال في فيتنام، الا ان الوضع يطرح تساؤلين لا بد من الاجابة عليهما: أولهما لماذا وجود الجند في العراق بداية والى مدى سيستمر ذلك الوجود. فاحدى النقاط السلبية للتدخل الانساني غياب الهدف المحدد أو صعوبة تحقيقه، مثل بناء جهاز دولة قادر على القيام بمهامه، وثانيهما اذا ارادت الولايات المتحدة الاستعانة بالمجموعة الدولية لمعاونتها في حفظ السلام وبناء الدول التي قامت بتغيير الأنظمة فيها، ألا يستدعي ذلك اشراك هذه الدول في اتخاذ القرار بصورة أفضل، كما اشار رتشارد هاس مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأمريكية الذي استقال من منصبه اخيرا ليتولى رئاسة مجلس العلاقات الخارجية وذلك على أمل أن يؤثر في توجيه السياسة الخارجية الامريكية بصورة أفضل مما كان متاحا له في موقعه السابق.

التعقيدات لا تحيط بالولايات المتحدة فقط، وانما أيضا بالدول التي جرى تغيير الأنظمة فيها وتجد نفسها في مواجهة أسئلة واستحقاقات مماثلة لتلك التي تواجهها واشنطون. وفي الحالة العراقية نموذج جيد. فمن الجلي أن هناك احتلالا يعترف به أصحابه، لكن هل المخرج عن طريق شن حرب عصابات لاخراج القوات الأمريكية، وما البديل اذا خرجت هذه القوات سواء على الصعيد العراقي أو الاقليمي؟ هل هي العودة الى الوضع السابق مع افتراض وجود صدام حسين، أم من خلال بديل جديد لا يزال قيد التبلور؟ بل وما هي فرص هذا البديل مع الأخذ في الاعتبار التشققات الأثنية والدينية التي تعج بها الساحة العراقية وغياب الشخصية الكارزمية الوطنية أو المؤسسة الحزبية القادرة على تخطي حدود التمايز القبلي والديني والعرقي، الأمر الذي يجعل الوضع مفتوحا على احتمالات كل منها أسوأ من الآخر.

وما يزيد في عمق الأزمة ان تجربة المواطنين مع الدولة الوطنية منذ الاستقلال لا تثير في النفوس ذكريات حسنة، الأمر الذي جعل الكثير من العراقيين يفضلون العمل مع القوات الأمريكية رغم التهديدات وصيحات الاستنكار، وهو ما يعيد التركيز على قوى التغيير المحلية وقدراتها على توفير اجابات مقنعة.