نزار حمدون.. قتل جمود البعث وقتله المرض

TT

الآن وقد أسلم نزار حمدون الروح في احد مستشفيات نيويورك يوم الاحد 6 يوليو (تموز) الجاري، وانتهت بذلك رحلة العذاب مع المرض وعلاج الحالة السرطانية كيماوياً الأمر الذي يجعل الألم مضاعَفاً، أجد نفسي في غاية التأثر كوني عرفتُ عن كثب هذا الرجل الذي أثبت عدم استحالة المرونة وامكانية استيعاب المتغيرات الدولية، والذي كاد ينتشل بلده وحزبه، البعث، من الوهدة التي انتهت إليها الحال، لو كان هنالك بعض الإصغاء إلى ما يقوله عندما يتاح له القول، وإلى ما يكتبه.. وهو كثيراً ما كان يكتب من واشنطن او من نيويورك، إلى القيادة في العراق.

كان نزار حمدون الذي داهمه المرض قبل خمس عشرة سنة وقضى عليه، وهو لم يُنه العقد الخامس من العمر، من الملتزمين حزبياً وواحداً من افراد الكوادر المتقدمة في حزب البعث. ومع ذلك فإنه قرأ جيداً منذ ان اندلعت الحرب العراقية ـ الايرانية، او فلنقل انها الحرب الصدَّامية- الخمينية، خارطة طريق الولايات المتحدة إلى المنطقة. وبدل أن يتصرف مع قراءته بالحدة ورفض التحولات الجديدة، وذلك على اساس انه ابن عقيدة لا تحتمل اي مرونة، فإنه أمعن غوصاً في أعماق التوجه الأميركي، وبالذات بعدما وجد نفسه يفتتح السفارة الأولى في عهد البعث في واشنطن عام 1984. والقول بأنها السفارة الأولى على أساس أن الحقبة البعثية ليست هي البادئة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أميركا وإنما حدثت القطيعة ايام كانت العارفية، من خلال الشقيقين عبد السلام ثم عبد الرحمن عارف، اول شقيق في العالم العربي الجمهوري يرث شقيقه الذي جرى اغتياله جواً، هي قاطعة تلك العلاقات انسجاماً مع القرار العربي في هذا الشأن، رداً عاطفي المنحى على هزيمة الخامس من يونيو (حزيران) 1967. وبعدما تسلَّم البعث الحكم من خلال الصيغة الثنائية (احمد حسن البكر/صدام حسين) بدأ السعي من أجل استئناف العلاقات. واختيار نزار حمدون البعثي المتمرس لافتتاح السفارة وليس أي أكاديمي او دبلوماسي من غير البعث لهذه المهمة، كان لتعميق العلاقة بين العراق المحكوم من البعث والولايات المتحدة. وليس هنالك افضل من نزار حمدون لمثل هذه المهمة. وخلال عمله كسفير أنجز أموراً كثيرة وأنشأ علاقات في منتهى الاهمية، ولم تبق ولاية إلاّ وزارها وحاضر فيها او تحدث الى وسائل الاعلام العاملة فيها. وفي فترة زمنية قصيرة بات هنالك ما يجوز اعتبارها نواة «لوبي» للعراق، يضم في عضويته بعض رجال السياسة والاعمال والمصارف، ارتاحوا اليه لأنه كان يتحدث كشخص يريد للعلاقة بين العراق واميركا ان تستقيم، وليس كرجل عقيدة تتطلع الى تحرير فلسطين من البحر الى النهر... وإلاّ فإن الذين لا يشاطرون قيادة بلده الرأي لا مجال لبناء العلاقة الوطيدة معهم.

بدأ نزار حمدون يُقنع بعض اركان الادارة الاميركية المعقودة اللواء للرئيس رونالد ريغان بجدوى تطوير العلاقة الاميركية - العراقية. وكانت نقطة الانطلاق قيام مجموعات من رجال المال والاعمال وممثلي الشركات الصناعية الكبرى في أميركا بزيارة إلى العراق، تولى ترتيبها، بدعم من نزار حمدون ومساندته، المصرفي الأميركي العربي الأصل بوب عبود، وشكلت هذه الزيارة التي تمت يوم 6 يوينو (حزيران) 1989 نقلة نوعية على طريق التطور وفق رؤية نزار حمدون لهذا التطوير. وكان هو في الوقت نفسه يعمل على تذليل أي عقبات في تطوير العلاقة. وفي سبيل ذلك كانت له أفكار واقتراحات تقاطعت مع رؤية صدام حسين الذي كان يتطلع الى ما هو اكثر من تطوير العلاقة. واذا جاز القول، فإنه كان يريد أن يتزامن التطوير مع مبايعة اميركا له سيداً على الخليج، وهو إفراط في استباق الأمور... وبالذات ما هو مستحيل منها.

وحتى بعدما داهمه نوع من السرطان الذي يصيب الجهاز اللمفاوي، استمر نزار حمدون يكافح على جبهتين: جبهة تطوير العلاقة بين العراق وأميركا، التي بذل مشقة في سبيلها، وجبهة العلاج الكيماوي لعل معجزة تحدث. وافترض أن زيارة وفد من مجلس الشيوخ برئاسة السناتور بوب دول قد تضع امور العلاقة التي اهتزت كثيراً في نصابها، خصوصاً أن تقييمه على نحو ما سمعنا تحليله للزيارة، وكان بات وكيلاً لوزارة الخارجية، يتلخص في أن العلاقة مع الادارة الأميركية التي كانت في عهد الرئيس جورج بوش الأب محاصَرة في عنق الزجاجة، من شأن نجاح زيارة الوفد إخراجها بسلامة والبناء عليها وعلى أحسن ما يكون عليه البناء. وكان تقييمه يستند إلى أن الوفد الذي يترأسه السناتور بوب دول خلطة أميركية يهودية، وأن رئيسه هو الأكثر احتكاكاً بالرئيس بوش والأكثر قرباً من نظرته الى الأمور. ولأنني من المهتمين بالشؤون المصرية فإن نزار حمدون قال لي: تستطيع وصف تأثير السناتور دول على الرئيس بوش بمثل تأثير عثمان احمد عثمان على الرئيس أنور السادات. وللتذكير، فإن التأثير «العثماني» على السادات كان كبيراً جداً، وتزايد شأنه نتيجة زواج نجل رئيس أهم شركة مقاولات مصرية وربما عربية، أي عثمان أحمد عثمان، من إحدى بنات الرئيس السادات.

بعدما غادر الوفد العراق في أعقاب انتهاء لقاء مطول مع الرئيس صدام حسين، عقده الوفد الذي يضم إلى جانب السناتور بوب دول السناتور سمسون والسناتور جيمس ماكلور والسناتور ماركوسكي، أمضيت مع نزار حمدون قرابة ساعة، أتشارك معه في تحليل هذه الخطوة وما يمكن أن ينشأ عنها. وكان كل منا قرأ بتأنٍ محضر اللقاء الذي تم في الموصل، كما نشرته نصاً الصحف العراقية. ولقد احتار كلانا في أمر النشر، وأرفقنا الحيرة بالتساؤل: لماذا العجلة في النشر، وهل أنه يفيد في شيء سوى أنه اشهار بأن الإدارة الأميركية هي الادارة وصدام حسين هو صدام ولن يتفاهما.. على نحو مقولة «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا؟».

وانطلاقاً من حسن الظن من جانبه في شخصي فاجأني نزار حمدون بالقول: إن السناتور بوب دول طلب منه أن يقوم بإبلاغ الرئيس صدام جملة للرئيس جورج بوش الأب من سبع كلمات هي: «إما أن تغيّر يا سيادة الرئيس أو تتغيّر». ولم يوضح لي ما إذا كان سيقول الجملة للرئيس صدام. وغالب الاعتقاد أنه قالها لي لعلني أقولها بدوري في سياق مقالة، وبذلك تصل الرسالة إلى العنوان المطلوب. ولكنني لم أفعل لأن الخشية من التفسير كانت ماثلة أمامنا. وها أنذا أشير إليها بعدما بات نزار حمدون في ذمة الله.. وكان صدام حسين بات قبل ذلك في ذمة الله أو التاريخ لا أحد يمكنه أن يجزم. وكان من شأن تلك الجملة لو تم أخذ صدام حسين بها في اتجاه التغيير، أن يبقى وينجو العراق من حربين قد تولِّدان واحدة ثالثة. والله أعلم.