أفريقيا بغير عدسات بوش وكلينتون

TT

للمفكر الشيوعي فلاديمير لينين مقولة شهيرة تقول: «ان السيطرة على أوروبا تبدأ من أفريقيا» وباطن العبارة هنا واضح، ويصب في خانة الموارد، والى ذلك اقتسمت بريطانيا وفرنسا والبرتغال وبلجيكا وايطاليا القارة السمراء جغرافيا، فيما وصمها الهولنديون القدامى والانجليز بنظامين عنصريين في بريتوريا (جنوب افريقيا حاليا)، وروديسيا، (زيمبابوي) حاليا، وكلاهما ازيح بالمصالحة مع الاول وبالصدام المسلح مع الثاني.

والى ذلك جاءت زيارة الأيام الخمسة الحالية للرئيس الاميركي بوش كأنها تقتضي وبدرجة تقترب من وقع الحاضر على الاثر، زيارة سلفه الرئيس كلينتون، فيما جاء الاثنان للقارة السمراء باجندة خفية، وأخرى معلنة مثلما جاء اليها استجداء لاصوات السود في اميركا على خلفية التودد للقضايا الافريقية الملحة والتي تلامس هوامش الذاكرة لدى سود اميركا حين يستذكرون ماضي المستعمر الاسود مع الاجداد، والى ذلك ايضا جاء رئيسان لافريقيا وهما في حاجة الى التنفس بعيدا عن ما يشبه الاختناق بسبب غبار السياسة الخارجية الاميركية، أو حتى زخمها الداخلي الغريب، دعك عن كون افريقيا وعلى مساحة اخرى مناقضة قدمت لواشنطن وعلى طبق من دماء يوم الجمعة 7 أغسطس (آب) 1998 واقعة تفجير سفارتيها في نيروبي عاصمة كينيا ودار السلام عاصمة تنزانيا، والحدث ذاك اسميه دائما (11 سبتمبر الصغرى).

وتقول بانوراما الزيارتين للرئيسين في 1998 ـ 2003، ان اختيار محطات التوقف في افريقيا جنوب الصحراء، التي تشكل 11 في المائة من سكان المعمورة، قد جاء دقيقا وكلا الرئيسين اختار السنغال، ونيجيريا ويوغندا، وجنوب افريقيا، فيما تفرد كلينتون بغانا، ليتفرد بوش ببتسوانا، ليصبح السؤال الحيوي هنا لماذا هذه المحطات؟

ولنبدأ بالسنغال التي لا يتعدى عدد سكانها 9 ملايين نسمة، والتي لا تزال ترزح تحت دياجير الامية والفقر منذ استقلالها قبل 42 عاما عن فرنسا، وهي الدولة المؤسسة في منظمة المؤتمر الاسلامي، وقد كافأها عالمها الاسلامي باختيار ابنها د. حامد الغابد امينا عاما لمنظمة المؤتمر الاسلامي لدورتين، لنقول ان الزيارة لها من كلينتون ثم بوش، وان توقف ظاهرها عن كونها كانت ضمن محطات تجارة الرقيق الكريهة، وقد وقف الرئيسان الاميركيان كل مع زوجته واخذا صورا تذكارية «ببوابة اللاعودة» التي مارس منها تجار الرق من البرتغال وفرنسا والمانيا وانجلترا ابشع صور الاهانة للانسان باقتياد الافارقة من ارضهم بلا عودة، الا ان باطن تلك الزيارة يقول ان السنغال كانت قد دقت ذاكرة الغرب في مارس (آذار) عام 2000 بوصول الرئيس عبد الله واد الى الحكم في انتخابات ديمقراطية اطاح فيها بالرئيس عبده ضيوف بعد 19 عاما من تشبثه بالسلطة، وبالتالي فهي تستحق هذا الاحتفاء، كاشارة صحية لجهة تلبية افريقية لمستحقات الديمقراطية وحقوق الانسان والشفافية.. الخ.

ولا تقتصر المكافأة هنا عند بعد تشريفي لشعب السنغال، وانما تحمل كذلك رسالة أخرى ثمينة لسائر القادة الافارقة الذين عمروا كثيرا في الحكم، وفي ذهن صناع القرار في الغرب، مثلما هو الحال مع الافارقة، ان رئيسين في دولتين هما جناسيمبي اياديميا (توجو) وعمر بانغو (الغابون) يحكمان الى يومنا هذا من وصولهما للسلطة قبل 36 عاما في 1967، فيما يحكم رؤساء في مدغشقر وجزر السيشيل وليبيا وكينيا (الى مطلع هذا العام) منذ مطلع السبعينات، دعك عن دول افريقية أخرى، بينها زيمبابوي وموزمبيق ومصر وتونس والسودان يحكم قادتها منذ الثمانينات. اختيار السنغال اذن يلبي حاجة في نفس (يعقوب الغرب) تجاه التداول السلمي للسلطة.

ومع جنوب افريقيا، ومع اجندة الرئيسين الاميركيين، يتلاقى بياض التاريخ مع سواده، واقرأ هنا سيرة الفصل العنصري، وسيرة نيلسون مانديلا، وتوقف مع اقتصاد جنوب افريقيا الواعد، وسجلها الرديء مع الايدز وفشل سياسات الرئيس ثامبو مبيكي. اما يوغندا، فحديثها آخر، فهي بحسابات جيوسياسية، دولة مفصلية في مسارات الحدث السياسي في منطقتين حيويتين، الاولى، منطقة البحيرات بدولها الثلاث التي يتلاقى فيها ايضا الابيض بالاسود، ففي بورندي ورواندا وقعت اسوأ أحداث تطهير عرقي في 1994 راح ضحيته نحو 800 الف مواطن من قبيلتي التوتسي والهوتو، فيما سجل ما يعرف بـ «عصر الشعوب» نقطة اضافية انضمت لنقاط السودان 1985، اندونيسيا 1998، الفلبين 2000، برحيل موبوتو عن الكونغو (زائير سابقا) بثورة شعبية وكفاح مسلح، والثانية، منطقة شرق افريقيا التي شهدت نشاطا دراميا للارهاب وتنظيم القاعدة في نيروبي وتنزانيا (سبتمبر الصغرى في 1998)، ثم تفجير الفندق اليهودي في ممبسا 2003، اضف الى ذلك نزاع السودان الداخلي، وكون بحيرة فكتوريا في يوغندا هي منبع النيل اكبر انهار العالم، بما لذلك من علاقة بقضية المياه، اكبر قضايا الالفية الجديدة بحسابات الموارد.

والتقرير ان اجندة بوش وكلينتون لا تتلاقى في ينجيريا اكبر بلاد القارة الافريقية سكانا (104 ملايين نسمة) واكبرها انتاجا للنفط (مليونا برميل في اليوم)، فالرئيس بوش يجيئها وقد فاز رئيسها الجنرال السابق أوليسون اوباسانجو بولاية ثانية قبل شهرين، ويريد بوش معه دورا حيويا لنيجيريا في استقرار غرب افريقيا ببؤره المتوترة بحروب اهلية في ساحل العاج وليبريا (نيجيريا قدمت عشية وصول بوش اللجوء السياسي للرئيس الليبيري تيلور. ولبوش اجندته الخفية باستدعاء بحث ادارته الجاد عن بدائل لاعتماد اميركا على نسب عالية من الطاقة على منطقة الشرق الاوسط. وقد تسربت مؤخرا، محاولة سرية اميركية لجهة دفع نيجيريا للخروج من منظمة اوبك، وهناك ما يشاع الآن عن اجندة اميركا الخفية من بقائها في العراق لجهة اخراج مستقبلي للعراق ايضا ضمن مخطط لتفكيك منظمة أوبك.

ولم تكن بالطبع تلك هي كل اجندة كلينتون الذي اراد تحية الديمقراطية الوليدة ورحيل طاغية مثل ساني اباتشا الذي اسماه وزير الخارجية الحالي كولن باول في تقارير سرية «بالقصير الكريه».

اما دوافع تفرد كلينتون باختيار غانا في أولى محطات جولته بالقارة السمراء فتعود جهة احتفائية ومراسمية كونها وبحسابات الماضي اول دولة افريقية نشرت فيها فيالق السلام (بيس كور) التطوعية الاميركية لحفظ السلام في عهد الرئيس الاميركي الديمقراطي الراحل جون كيندي، وبحسابات الحاضر مسقط رأس الأمين العام الحالي للأمم المتحدة كوفي انان.

والى ذلك تعود دوافع تفرد بوش بدولة صغيرة مثل بتسوانا الى كونها اعلى دول افريقيا اصابة بمرض الايدز بنسبة 2 ـ 5 بين الرجال، في مقابل جهود ناجحة لرئيسها فيستوس موجاي اثمرت عن محاصرة تلك النسبة وصولا الى استقباله ضمن برنامج طموح، ولكن للزيارة اجندتها الخفية الأخرى التي يذهب ما تسرب منها الى نية واشنطن توسيع وجودها العسكري (وهو الاكبر افريقياً في بتسوانا) بحسابات تتداخل فيها الطاقة مع فتح الآفاق للشركات الاميركية ومتعددة الجنسيات للعمل في تلك المناطق تحت مناخ يسوده الاستقرار.

ولكن وبعيدا عن ذلك، فالقارة السمراء وبحسابات غربية تتقدم على صعيد استحقاقات النظام العالمي الجديد، ويكفي هنا الاشارة الى انها قد قفزت بمعدل ادائها السياسي من 5 ديمقراطيات فقط عام 1989 الى 23 دولة ديمقراطية الى جانب 20 دولة اخرى بدأت مشاريعها للاصلاحات.

ولكن تلك الاصلاحات أو مجمل النظر الغربي وجب ان لا يغض نظر الغرب والافارقة قبل ذلك عن الواقع المعاش اليوم في افريقيا، وهو واقع سوداوي وفق تقارير للوكالة الدولية للتنمية وتقرير المفوضية الاقتصادية للامم المتحدة. وكلاهما يشير الى ان نسبة النمو في افريقيا، اذا كان لها ان تقفز الى الضعف فإن دخل الفرد عام 2006 سيكون اقل بنسبة 5 في المائة عما كان عليه عام 1974.

وشاهد القول هنا ان زيارة بوش وكلينتون من قبله تلامس تلك القمة الاوروبية الافريقية، وهي الاولى من نوعها، وقد التأمت بالقاهرة في ابريل (نيسان) 2000، بمعنى، استغراقها في خطاب سياسي يتحدث باللغة الرنانة ويقدم الوعود على الاعمال، فتكون النتيجة الحتمية فجوة نبهت اليها الدراسات كثيرا، وهي محزنة حقا لأن قوامها وبلغة التنمية يذهب الى ان القارة لن تستطيع مع مثل هذا التعاطي، الأوروبي أو الأميركي، اللحاق بالعالم لأن القارة السمراء تحتاج الى عقدين من الزمان وجيلين من البشر لتصل الى المستوى الذي كانت عليه في السبعينات، وذلك يعني بعبارة أخرى انها تركض لتحقيق مجد كان لها في الماضي، فيما يسعى العالم لمستقبل جديد.

من حق القارة ان تصرخ اذن في وجه زيارات تخلط بين ما هو انتخابي ودعائي، وما هو قائم على الارض الافريقية من واقع لن يتغير الا بطرق كثيرة، يتقدمها برنامج طموح يموله العالم الصناعي، وادارة افريقية حسنة تبعد عنه اشباح الفساد، ولتكن المرجعية هنا لحلمي افريقيا اللذين صاغتهما مؤخرا بوعي شديد وهما: الشراكة الافريقية الجديدة من اجل التنمية «نيباد» واهداف التنمية في الالفية الجديدة، وكلاهما يحتاج الى اكثر من 70 مليار دولار، ليهيئ لنفسه مناخا يتيح الانطلاق، وهو رقم دون طاقة القارة السمراء، ومع ذلك فلتشكر القارة بوش على تعهده بـ 15 مليار دولار يحتاج الى اضعافها مشروع مكافحة الايدز وحده، فما بالكم ببقية المشاريع.؟