«كفّوا عن العراق»!

TT

يواصل الأداء السياسي والإعلامي في عدد كبير من الدول العربية شتم «الظلام الأميركي» في العراق، من دون أن يحاول إضاءة شمعة أو ملاحظة قبس من نور يلوح في نهاية النفق المظلم.

طبعًا لم يكن حكم صدام حسين إلاَّ ديكتاتورية أغرقت العراق في مدلهم السواد والدم والأوهام، ومع هذا فإن العداء لأميركا ولسياستها يدفع الكثيرين إلى تجاوز «الصدّامية كليًا» والتركيز على مثالب الأميركيين وأخطائهم الفادحة بحق العراقيين.

على هذا الأساس كان مثيرًا فعلاً أن يصرخ اثنان من أعضاء «مجلس الحكم الانتقالي»، الذي أعلن في بغداد يوم الأحد الماضي، مخاطبين العرب وفضائياتهم: «كفّوا عن العراق»!

لم يكن أحمد الجلبي بين هؤلاء، لكن أعضاء المجلس الـ25 غرقوا في تصفيق حماسي مفاجئ، كشف مدى التبرُّم من الأداء السياسي والإعلامي العربي حيال ما يجري في العراق، حيث يشكل الحرص على الطعن في الاحتلال وتصرفاته الهدف الوحيد لهذا الأداء، بغض النظر عن ضرورة البحث عن المصلحة الوطنية العراقية وخير الشعب العراقي.

المثير أكثر أن تعليقات وتحليلات كثيرة تتحدث الآن عن المجلس الانتقالي، وكأنه مؤامرة يحيكها بول بريمر ضد مصلحة الشعب العراقي، وهذا أمر غير صحيح على الإطلاق، لا بل انه يكشف عن غوغائية متمادية، هي بالذات التي دفعت مثلاً السيد محمد بحر العلوم إلى القول: «كفّوا... أوقفوا التحريض ضد الشعب العراقي».

ولماذا يقال ان المجلس مؤامرة؟

لأن معظم أعضائه يأتون من الخارج بعدما أبعدهم النظام السابق، ولكأن هذا الأمر يشكل نقيصة، رغم أن بعض هؤلاء يعود من ايران ومن دول أخرى في الخليج، لا من واشنطن أو لندن أو أحضان الـ«سي.آي.إيه».

ثم أن المنتقدين لم يكلّفوا مثلاً أنفسهم عناء السؤال: وهل ترك صدام حسين أحدًا من القيادات في العراق أو على قيد الحياة كي يُمكن تعيينه في المجلس المذكور؟

ولماذا المجلس مؤامرة؟

لأنه أعاد إحياء التعددية التي يقوم عليها النسيج الاجتماعي في العراق، فجمع شخصيات تمثّل المجموعات القومية والدينية والطائفية والسياسية (13 شيعة - 5 سنة - 5 أكراد - مسيحي واحد ـ وتركماني واحد)، ولكأن الاعتراف بتعددية المجتمع يشكل نقيصة لا غنىً، أو لكأن سحق هذا التنوّع وتذويبه في «القالب الصدّامي» كان أفضل وأحسن.

ولماذا المجلس مؤامرة؟

لأن مسؤولية الأمن ستبقى في يد بريمر، الذي سيكون له أيضًا حق نقض قرارات المجلس الانتقالي كلها. ولكأن هناك من يصدق أصلاً أن دبابات الأميركيين حملت معها بديلاً سياسيًا يملأ فورًا فراغ النظام في العراق.

لقد سقط صدام وسقطت معه كل آليات نظامه. وظيفة المجلس الانتقالي الأساسية وضع إجراءات لصياغة دستور جديد يقرّه العراقيون في استفتاء، تمهيدًا لاجراء انتخابات عامة تنبثق منها سلطة تمثيلية وطنية.

وظيفة المجلس الفورية الآن إقرار نظام لعمله وتشكيل حكومة وتعيين لجان وهيئات من الخبراء تقوم بمهمتين: تسيير أعمال الوزارات وإعادة حضور السلطة ووضع الأساس والنصوص لدستور البلاد الجديد.

طبعًا ليس هناك من يناقش في فداحة أخطاء الأميركيين، لكن من ينظر إلى تعيين «مجلس الحكم الانتقالي» وكأنه مجرّد مؤامرة يرتكب خطأ فادحًا، لأن الأنظمة والدساتير لا تبنى بكبسة زر.