شكرا

TT

كم كان عالمنا موحشا من دونهم. اعني من دونهم جميعا، جميعا. وكم كان فظا. وكم كان بلا مشاعر او قواعد او احساس بما ومن حولنا من ألم وعبقرية وفرح وجمال وانسانيات.

تخيل عالما لم يخترع فيه اديسون الكهرباء والكسندر بل الهاتف، ولم يكتب فيه فيكتور هوغو «البؤساء»، ولم يكتب عمر ابن ربيعة الى الكبرى والصغرى، ولم يطلب فيه المتنبي الحكم شعرا وحكمة واعجازا في العروض. تخيل اميركا من دون هوليوود، وهارفارد، وهمنغواي. او فرنسا من دون رامبو او اسبانيا من دون غويا وفلاسكيز. او ايرلندا من دون جيمس جويس وصامويل بيكيت. او جنوب فرنسا من دون «تفاحة» سيزان. او القاهرة من دون الاهرامات ونجيب محفوظ والنيل وانت عمري. او دمشق من دون نزار. او بيروت من دون عاصي ومنصور وفيروز. تخيل واشنطن من دون ابراهام لنكولن وجون كينيدي. او نيويورك من دون مجلة «نيويوركر» ورساميها والمدرسة الصحافية التي تركها لها المستر شون. وتخيل اليونان من دون افلاطون وسقراط. وماذا كانت الصين من دون فيلسوفها كونفوشيوس، او المانيا من دون غوتة وبيتهوفن، او باريس من دون المهندسين، ايفل وهوسمان، او ايطاليا من دون ليوناردو دافنتشي. تخيل في اي عالم واي فوضى يمكن ان نكون لو لم يضع المصريون الاوائل اول روزنامة في التاريخ، ويحددوا لنا اليوم والساعة والدقيقة. تخيل عالما لم يكن فيه ابن سينا وابن خلدون وابن رشد. تصور ايطاليا من دون رافاييل، واسبانيا من دون سرفانتس، واليونان من دون هوميروس، وبريطانيا من دون وليم بليك ووليم شكسبير وونستون تشرشل والملكة فيكتوريا. تصور الهند من دون تاج محل وطاغور وغاندي. هل كنت تعرف بولندا لولا كوبرنيكوس؟ ومن يبقى في فؤادك من ذكرى سبعين عاما من السوفيات، ستالين وبيريا ام سولجنتسين وباسترناك؟ وهل تاريخ روسيا هو لينين، ام غوركي وتورغنيف وتولستوي ودوستويفسكي وبوشكين؟ وما هي كل القارة الاميركية الجنوبية بالنسبة اليك، لولا بابلو نيرودا وغابرييل غارسيا ماركيز؟ وما هي اسبانيا من دون العمارة الاندلسية؟ وماذا يعني نصف قرن من كاسترو سوى وجبات الاعدام الوفيرة ووجبات الطعام النادرة؟ تخيل كوبا لولا بقيت لوحشتها مع كاسترو، من دون موسيقاها واغانيها وشعرائها. تخيل شيوخها يصارعون البحر ولا يكتب قصتهم همنغواي.

لقد اعطانا بعض البشر الانس في هذه الحياة. بعضهم اعطانا النور الداخلي وبعضهم النور الخارجي. بعضهم زودنا الحكمة وبعضهم سهل لنا الحياة وبعضهم حول الارض الى بلدة واحدة. كل واحد بنى طوبة في هذا الصرح الكوني الذي نعرفه باسم العالم. المؤرخون حفظوا لنا امثولات التاريخ. والشعراء صنعوا لنا التراث الجميل. والبحتري جعل من تحفة هندسية تحفة شعرية. والمطبعة جعلت الفكر مسألة كونية، والحضارات شرفات. وسيد درويش نقل الاغنية الى الحقول وعلّم الفلاح ان يغني مثل سيدي الباشا.

هناك عقول طورت حيواتنا، وأيد مسحت عن جباهنا العرق عندما اخترعت الآلة وحررت الانسان من عبوديته الكبرى، وهناك عبقريات فاقت شدو الطيور والعصافير وهمس النسيم. وهناك اجلاّء واوادم علمونا كيف نحترم انفسنا ونقدر سوانا ونعرف حدودنا، وهناك احرار علمونا قيمة واهمية الحرية. وهناك شعراء وفنانون علمونا محبة الارض. وهناك خيّرون علمونا عظمة الخير. ونحن مدينون، دون ان ندري، بجماليات الحياة لكل هؤلاء. والا لكنا الآن في غابة، نرى الخبّاز مجرد فران وليس قصيدة رائعة لابن الرومي. ونرى العيون الجميلة ولا ندرك انها تقتلننا لأن في طرفها حَورا. ونغرق في السكون فلا ندري كم هو اجمل مع «مناجاة في ضوء القمر» لبيتهوفن. ونسافر الى ايطاليا ولا نعرف انها اكبر متحف مفتوح على وجه الارض. كن جميلا ترى الوجود جميلا، قال ابو ماضي. ليس كله، يا ايليا. ليس كله.