اللون طائفي وعرقي والمضمون قوى حزبية وسياسية

TT

تشكيل «المجلس الانتقالي» في العراق جاء متأخرا جدا، ولو ان الاميركيين لا يجهلون الشأن العراقي الداخلي والانساني العراقي، «الداخلي ايضا»، كل هذا الجهل لكانت الامور هناك، في هذا البلد الذي لم يعرف الهدوء على مدى حقب التاريخ الا لفترات قصيرة، على غير ما هي عليه الآن، ولكانت عجلة التقاط الانفاس قد بدأت في الاسابيع الاولى بعد سقوط صدام حسين ونظامه.

لكن ان تأتي متأخرا خير من ألا تأتي ابدا، ومن المفترض ان تؤسس هذه الخطوة لخطوات سريعة لاحقة اهمها على الجانب السياسي التهيئة لاعداد دستور للبلاد والتأسيس لاجراء انتخابات عامة شاملة. اما على الجانب «الحياتي» فإن اهمها الامن وايصال خدمات الماء والكهرباء الى كل المناطق التي لا تزال محرومة منها.

لقد قيلت اشياء كثيرة عن هذا المجلس، قبل وبعد تشكيله، ولعل اهم ما قيل في هذا المجال انه كرس المذهبية والطائفية في العراق وان لوحة فسيفسائية على هذا النحو لا يمكن ان تجعل بيتا متصدعا حجرة واحدة متماسكة راسخة البنيان، والحقيقة ان من تساورهم مثل هذه المخاوف معهم كل الحق، اذ ان اسوأ ارث تركه النظام البائد المدحور هو انه بعد حكم نحو خمسة وثلاثين عاما ترك وراءه بلدا منهكا وممزقا جغرافيا ونفسيا وشعبا جريحا يحتاج الى سنوات طويلة للملمة اوضاعه.

لا يمكن اعتبار ضبط الناس بالقمع وبالحديد والنار وحدة وطنية فالوحدة الوطنية هي اختيار طوعي ولقد فات الذين كانوا، ما زالوا، ينظرون الى الشأن العراقي بعين حولاء ان العراق بقي من الناحية الجغرافية والقومية والمذهبية مجزأ على مدى سنوات ما بعد غزو الكويت وانه من الناحية النفسية بقي مشتتا ومزعزعا على مدى سنوات نحو نصف قرن بأكمله.

منذ عام 1991 وحتى الآن والشمال، اي كردستان العراق، عبارة عن دولة مستقلة قائمة بكل مواصفات الدولة ويقينا لو ان الظروف الاقليمية والدولية تسمح بذلك لتم الاعلان عن هذه الدولة، ولكانت الآن عضوا في الامم المتحدة، ولسجل التاريخ ان الاكراد استطاعوا تحقيق هدفهم القومي باقامة دولتهم المستقلة في عهد رئيس عراقي متهور اسمه صدام حسين المجيد التكريتي.

ومنذ عام 1991 والجنوب العراقي يعيش من الناحية الفعلية والنفسية انفصالا حقيقيا عن الدولة المركزية في بغداد اذ بعد ان بطش النظام بانتفاضة ابريل «نيسان» المغدورة، التي غدرها الاميركيون وخانوها في اللحظة الحرجة، بقي هذا الجزء من العراق يعيش ظروف احتلال فعلي أشد وطأة من الاحتلال الاجنبي وبقيت مدن وقرى هذا الجزء تلبس ثياب الحداد وتتغطى بالسواد وتخرج على النظام في الليل وتعود عن خروجها في النهار.

لم يكن نظام صدام حسين نظاما سنيا ولا نظاما بعثيا تكريتيا لقد كان نظام عصابة اجرامية، ولقد بدأ بالبعث نفسه وحوله الى مجموعة من الجلاوزة والجلادين، وبدأ بالمسلمين السنة فألب عليهم اخوتهم من ابناء الدين الواحد، وبدأ بمنطقة تكريت فألبسها ثياب قرية العوجا وعباءة عشيرة البيجات، ولقد افرغ العروبة من كل مضامينها الحضارية والانسانية وحولها الى كتلة نتنة من التعصب المقيت.

لا بديل للاعتراف بواقع العراق الممزق ومعالجة هذا الواقع على هذا الاساس الا ان يأتي بريمر بجنرال، متقاعد او عامل، تسيل لعابه شهوة التسلط والسلطة ويسلمه سوط صدام ويهيئ له كل امكانيات اعادة حشر العراقيين بكل امراض المرحلة البائدة في قمقم واحد يحمل اسم الوحدة الوطنية.

العرب والاكراد والشيعة والسنة والآشوريون والتركمان جميعهم يشكلون النسيج الاجتماعي للعراق وحتى يصبح بالامكان ان ينصهر هؤلاء في دولة واحدة موحدة فإنه لا بد من اقتلاع الشعور بالغبن من قلوبهم جميعا وانه لا بد من حقوق وواجبات متساوية وانه لا بد من ألا تشعر اية مجموعة بالغربة وهي في وطنها وانه لا بد من تنظيف الجروح ومعالجتها قبل اغلاقها وانه لا بد من ان يشعر كل مواطن بالانتماء الى وطنه وان لا احد يمن عليه بهذا الانتماء وبهذه المواطنة.

بالتأكيد ستواجه هذا المجلس معضلات عرقية وطائفية ومذهبية وبخاصة لجهة وضع دستور جديد للبلاد فلقد ترك النظام السابق بعد انهياره كتلة كبيرة من العقد والامراض ولقد اشعر صدام حسين خلال سنوات حكمه الطويلة كل مجموعة من المجموعات المكونة للمجتمع العراقي بأنها مستهدفة من المجموعة الاخرى وان السنة مستهدفون من الشيعة والشيعة مستهدفون من السنة وان العرب يضطهدون الاكراد وان الاكراد سينتقمون من العرب اذا دارت الدوائر وتبدلت الامور وسقط النظام.

لكن بصورة عامة يمكن القول ان تشكيل هذا المجلس يعتبر بداية مشجعة وان انجازات كثيرة بالنسبة للقضايا اليومية الحياتية ستتحقق اذا احسن الاميركيون التصرف واذا تحاشوا الاخطاء القاتلة التي وقعوا فيها سابقا وأدت الى كل هذا التدهور الهائل في الامن والاستقرار وفي المسائل المتعلقة بحياة الناس واذا لم تطرأ مستجدات اقليمية ودولية معاكسة.

حتى يستطيع هذا المجلس القيام بالمهام التي اوكلت اليه فإنه على بريمر ان يتخلى عن عقلية الحاكم الاوحد والوحيد، وانه على الاميركيين ألا يبقوا يعانون من عمى الالوان، وان عليهم ان يعيدوا النظر بكل قراراتهم الخاطئة السابقة واهمها وضع البعثيين كلهم في الجهة المعادية واعتبار الجيش العراقي كله مواليا لصدام حسين، وقطع اعناق وارزاق الناس بحجة التخلص من باقي ما تبقى من مرتكزات نظام صدام حسين.

بعد تشكيل «المجلس الانتقالي» يجب أن يشعر العراقيون بتحسن الأوضاع الامنية والمعاشية بسرعة وخلال فترة قصيرة، ويجب ان يشعر المواطن العادي بأن نهاية معاناته قد اقتربت، وان شبح صدام قد زال الى الابد وان لا عودة للنظام البائد لا الآن ولا في المستقبل وان المرحلة الماضية ذهبت بلا رجعة وان مرحلة مزهرة وواعدة باتت قريبة وان هذه المعاناة القاسية والمؤلمة الحالية هي معاناة ما قبل ولادة عراق جديد وان الظلمة الراهنة التي يمر بها العراقيون هي ظلمة ما قبل انبلاج الفجر وشروق الشمس.