فلسفة الإغراء

TT

لتحضير منتوج تجاري ناجح عليك بالمقادير التالية: تضع ثلثين من مهارتك التصنيعية في السلعة وتضيف إليها ثلث الكمية من الفلسفة، لتحصل على نتيجة سحرية، بحسب هانز جورك شار أحد اشهر نجوم التسويق في العالم. ولفظة فلسفة هنا تبدو مطاطية، لكنها تعني الإغراء الذي تستطيع ان تمارسه السلعة على المستهلك بفضل الحيل التسويقية التي ترافقها. وتبعاً لوصفة شار الناجعة تعمل حسناوات فرقة «بوند» الأربع، اللواتي غنين وعزفن في لبنان منذ أيام بعد ان حصدت ألحانهن تصفيق جماهير العالم، واخترقت أعمالهن ذوق سكان القارات. فبألبومين غنائيين مبتكرين فقط، أضيف إليهما الثلث الفلسفي المطلوب من عسل الأنوثة الطاغي ومستلزمات الإغراء العارم، طارت شهرة الفرقة. فمعرفة كيمياء النجاح في عصر «اقتصاد المعرفة» مسألة لم تعد تحتمل المزاح، وفتيات «بوند» جميلات لكنهن بارعات في العزف السريع والاستعراضي على الآلات الوترية أيضاً، ومتمرسات في الغناء، واثنتان منهن حائزات شهادات في الدراسات العليا من معاهد موسيقية، والرقص عندهن وتمايل والأجساد والملابس الشفافة أو المختزلة ليست مع الشعر الطويل الأملس هي وحدها سر النجاح الخارق الذي حققته الفرقة خلال سنوات معدودات، وإنما هي أدوات يستخدمنها بقدر مدروس يتناسب وما توصي به الوصفة التجارية السحرية أعلاه. وبهذا تفهم أن فشل التسويق الفني العربي يكمن في فوضى الكميات التي تركّب منها الأعمال، والجهل بأسرار الطبخات المهنية التي تستطيع ان توزع اطباقها عبر القارات، وهذه بلية قد تتسبب كأي خطأ كيميائي فادح في حروق خطيرة، وربما حرائق عصية على الإطفاء. فالفنانة شاكيرا تجيد ممارسة الفتنة بما لا يترك مجالاً للشك، ولها في هذا المجال موهبة عالية، لكنها أيضاً تكتب الأغنيات، وتلحنها بحذق، وتعرف كيف تجعل من صوتها آلة موسيقية متعددة النغمات والطبقات، إضافة إلى أنها أفنت أيامها في التدرب على الرقص، كي تخرج من هز الخصر التقليدي الممل إلى لغة مبتكرة في استنطاق الجسد وخلب الأنظار. وشاكيرا كتب عن فنها في الفرنسية والإنجليزية من التحاليل الجدية ما يرفع الرأس رغم أن البعض قد يرى في عملها ما يخدش الحياء، لكنه سيضطر عند أول فرصة أن يسترق النظر خلسة ليستمتع بما تفعله هذه الجنية البديعة لتسرق الألباب. ورغم التقليد ومحاولات الاستنساخ عن النسخة الأصل إلا أن شاكيرا تبقى وحدها شاكيرا، لأنها كدّت وتعبت كي لا تخطئ في المعايير وتغبن المهارة بتغليب روح الشطارة، وتفعل على طريقة فناناتنا وفنانينا الذين طلقوا روح العلوم قبل أن يصلوا الى المقاعد الدراسية. والنتيجة أن شاكيرا ومعها مارك أنتوني وريكي مارتن استطاعوا ان يجعلوا من الاسبانية أو البرتغالية التي يغنون بها إلى جانب الإنجليزية لغة يسيل لتعلمها لعاب المراهقين والشباب الذين يرددونها دون أن يعرفوا حتى معناها أو فحواها. والإنجليزية بدورها قبل أن تكون لغة التجارة والاقتصاد هي لغة ثقافة شعبية عممت حين وزعت بلسانها وجبات أفلام ديزني التي يتربى عليها صغارنا ولغة هوليوود التي تعرض نتاجاتها تلفزيوناتنا على مدى الليل والنهار. وقبل أن يصيبنا الشطط ونلج أوجاع العربية المتنامية بفضل أبنائها المهووسين بالتسويق الفوضوي المعايير، الذي لا يوصل البضاعة إلى أبعد من حدود مضارب القبيلة، لنعود إلى قيمة العمل المتعوب عليه والذي يستطيع أن ينتشر عالمياً حين يدعم بالإغراء أو الألعاب التسويقية التي أصبحت اختصاصاً يحتاج إلى بهلوانية إبداعية للنجاح فيه. إذ يجمع كبار المستثمرين وصغارهم على ان أذواق الناس تزداد صعوبة وان مكر المستهلك يتنامى، ومهمة المسوّق أصبحت عصية ما لم يكن هذا الأخير ابتكارياً من الطراز الأول ومدركاً لحقيقة أنك قد تفلح في خداع الناس لمرات عديدة لكنك لا تستطيع أن تخدعهم دائماً ما لم يكن لك من المصداقية المهنية ما يمكن ان تتكئ عليه. ومشكلة التسويق عموماً عندنا أنها تتبع اسلوب المعلنين ومدارسهم التقليدية التي أكل الدهر عليها وشرب وتعاني حالياً الكساد. فبعد أن كانت سيقان الفتيات الطويلة العارية تجتذب الرجل لشراء السيارة الفارهة في الستينات والسبعينات، تبنى المعلنون،بعد ذلك، وقد خف وهج السيقان، فلسفة أخرى تقول ان تكرار الإعلان وجعله أشبه بالمطرقة التي لا تنقطع عن الطرق على الرأس هو الوسيلة الفضلى لجعل السلعة أشبه بالقدر الذي لا يستطيع أن يتجاوزه الإنسان، ولما كثرت الإعلانات وتشابهت وفرّخت معها المحطات التلفزيونية، اختلط الأمر على المشاهد وتداخلت الدعايات وأسماء المنتوجات، وما عاد للجهد المبذول والأموال المهدورة بالمليارات من مردود مرضٍ. والفنانات أو الفنانون الذين يعتقدون أن مجرد تكرار عرض نتاجاتهم المجمّلة بالهرج والمرج الذي لا يتمايز أو يرتفع عن مستوى الممجوج، هو الكفيل بكتابة استمرارهم لم يقرأوا شيئاً، على الأرجح، عما يعانيه المعلنون، حالياً، من أزمة في مواجهة جمهور متطلب لا بل شديد التطلب. وإذا كان إنسان القرن العشرين عاشقاً للإغراء الذي يمارس عليه فهو متيم بالذكاء والحيلة المدروسة والمحبوكة التي تنصب بفنية عالية لا تترك له مجالاً للشك والتفكر. وسياسة «الماركتنج» المتبعة في الفن العربي الغنائي، التي تحاول استغلال المستهلك دون أن تحترم ذكاءه وحاجته لما هو أفضل وأرقى ستنتهي إلى ما آلت إليه كل الصناعات الوطنية العربية في معركتها غير المتكافئة مع «المستورد»، وإذا كنت لا تعرف لغاية اليوم لماذا تفضل بدلة مستوردة من الصنف الرديء على بدلة وطنية من الصنف الجيد فعليك بالعودة إلى الوصفة التي ابتدأنا بها مقالتنا. ولعل من المفيد أيضا التذكير أن أمة العرب توقفت عن إنجاب الفلاسفة منذ زمن بعيد، فيما الفلسفة لها الصدر في الغرب إلى الزمن الذي نعيش. وثمة فرق شاسع بين إغراء متفلسف وفلسفة تمارس الإغراء.

[email protected]