التنمية المقلوبة وتحديث التخلف

TT

«فندي لم يزر قنا، ومصنع الورق يبعد عن الاقصر 50 كيلومترا، واهالي قوص لا يشتكون من التلوث». هكذا كتب صحافي في واحدة من صحف القاهرة المسائية، ردا على مقالي، والذي لم يكن في الحقيقة عن مصنع الورق أو التلوث الهائل الذي يسببه هذا المصنع في هذه المنطقة من جنوب مصر، بل كان المقال عن ما سميته بـ«عورة الصحافة» التي تكتب «من مكاتبهم» دونما النزول الى مواقع الاحداث، وها هو واحد من الصحافيين المصريين يثبت نظريتي فبدلا من الذهاب الى موقع الحدث او حتى طلب ملف المصنع من ادارة البيئة في المعادي ادعى ان المصنع هو اكبر انجاز في المنطقة ويبدو ان الصحافي لم يقرأ الرسائل التي نشرتها «الشرق الأوسط» من مدينة قوص، او انه يسافر من مطار القاهرة الى مطار الاقصر! فلا يمر بمدينة قوص التي تقع على بعد 26 كيلومترا شمال مدينة الاقصر، كما ان حسابه للمسافة بين قوص والاقصر حسب ما كتب انها خمسون كيلومترا، هذا عكس الحقيقة، الا اذا كان الصحافي حسب المسافة وهو جالس في مكتب العلاقات العامة امام الموظف الذي املى عليه رسالة الرد على فندي. ان كان حسبها بهذه الطريقة فهو على حق، فبالفعل المسافة بين قنا والاقصر هي خمسون كيلومترا وتقع مدينة قوص في المنتصف، وكذلك يقع المصنع.

وهكذا كما ترى بدلا من ان يذهب هذا الصحافي الشاب (هذا ان كان شابا) الى قوص ليفجر قضية صحافية، انبرى من مكتبه في القاهرة، مدافعا عن المحافظ وعن المصنع، وانه لا يوجد في الامكان افضل من هو كائن «ومحافظنا ملاح ومعدينا» وباقي هذا الفيلم الهندي الهابط.

هل يستحق انسان كهذا ان يمتهن مهنة الصحافة؟! انا انصحه ان يتحول الى «هتيف» اي محترف للهتاف، لان الصحافة ليست رصا لعبارات انشائية بعضها الى جانب بعض، الصحافة محتوى كما ذكر زملينا الاستاذ سمير عطا لله، وكذلك هي مثل السباكة، كما ذكرت، اما ان تصلح الصنبور او ان تخرج من البيت «وتشوف لك شغلة تانية».

وكتب عبد المحسن محمد، وكذلك مدير المصنع عن ان كل شيء على ما يرام، وان فندي يتجنى، وطبعا كما يقول المثل المصري المعدل «تكلم «انثى الأسد» تلهيك، واللي فيها تجيبوا فيك!».

اولا يا سادة انا اعيش غرب المصنع هذا بالضبط واعبر الى قوص عن طريق المعدية Ferry، ليس كذلك فقط وانما درست في مدرسة قوص الثانوية التي حيث المصنع، ولا دخل لحكاية، ان فندي يعيش في امريكا ولا يعرف الصعيد بالموضوع، لان هذا كذب بواح.

اما انجازات المحافظ التي يتشدق بها هؤلاء فدعني اذكرها هنا، الرجل لا بأس به، اذ قام بتجميل ثلاثة شوارع في مدينة قنا البائسة، وكتبت ذات مرة في صحيفة محلية امتدحه على البداية الطيبة، ولكن بعد اكثر من ثلاث سنوات اتضح ان الموضوع برمته «لعب للتلات ورقات» تجميل لبعض المظهر ولا مساس بالجوهر، وكلنا يعرف هذه الحيل في مصر، فتجد طريق اي مطار مزروعا، وكذلك معظم الطرق التي يحتمل ان يمر فيها مسؤول كبير مزروعة ومعبدة اما الشوارع الجانبية فهي تزرع بالطريقة «الموبايل» ان اراد مسؤول كبير زيارتها، حيث تأتي عربات محملة بالاشجار تغرسها امامه في لحظتها، وكلما مر المسؤول رفعت الاشجار من خلفه وطارت السيارات لتضعها امامه، وهكذا تسير المهزلة التي يعرفها الصغير قبل الكبير في المحروسة.

اما من ناحية المضمون، فلا نجد انجازات تذكر، اذ تصل نسبة البطالة في هذه المحافظة الى %60، ولولا اعتماد معظم الاسر على ابناء لهم يعملون في الخارج وانا منهم لكانت هناك حاله انفجار، فمثلا يوجد في الكويت وحدها من محافظة قنا 70 الف عامل، اي تقريبا عامل من كل 20 بيتا، كما يوجد اقل من هذا العدد بقليل يعملون في المملكة العربية السعودية، نسبة البطالة هذه سبب رئيسي في ظهور الارهاب في الصعيد، وفي قنا تحديدا، من الحجيرات الى الحميدات، التي يمكن ان يراها المحافظ من نافذة مكتبه، وهو الرجل الذي جاء محافظا لهذا الاقليم من مؤسسة امن الدولة، حيث كان قبل ذلك مديرا لامن الدولة في الاسكندرية، الازمة في هذا الاقليم لا تحل بزراعة اربع ورود على ناصية كل شارع.

تحل الازمة من خلال الالتفات الى مستشفى نقادة العام الذي يخدم فرضا نصف مليون مواطن والذي ما زال خربا لمدة ثلاثة اعوام، مكتوبا عليه لافتة مستشفى، ولكن ليس به اي شيء يخدم المنطقة هذا مجرد مثل بسيط لآلاف من الاجهزة الحقيقية الخربة او المعطلة.

اما مدينة قوص التي بها هذا المصنع الملوث، فهي مدينة عريقة لها تاريخ ولا تقل اهمية عن جارتها الاقصر، فقوص كانت عاصمة تجارية منذ العهد الفاطمي حتى فترة محمد علي باشا، وكانت المركز الحضري الوحيد االذي يغذي ميناء عيذاب القديم على البحر الاحمر، اذ كان يتوقف في قوص حجاج قادمون من شمال افريقيا وايضا من الهند في رحلاتهم للحج، وبدلا من فهم تاريخ هذه المنطقة ومحاولة تطوير ما تملكه من ادوات، جاءت التنمية المقلوبة مع الثورة فظهرت في قوص مصانع السكر المقامة على النيل، والتي تصب بشكل يومي تلوثا في النيل مباشرة، ثم اضيف اليها مصنع الورق، تلك الكارثة البيئية. هذا ما يسميها اساتذة علوم التنمية «بتحديث التخلف»، المظهر يبدو حديثا، والمخبر هو رمز للجهل والتخلف، اذ تكون تكاليف ما ينفق على صحة المواطنين نتيجة للتلوث، اكبر بكثير من عائد المصنع المادي. ولكن كيف يفهم تاريخ قوص من هو قادم من الدلتا ولم يزرها الا وهو محافظ، رجل يدعو الصعايدة الى خلع الجلباب! (الذي هو الزي المحلي منذ القدم). المشكلة تظل كما كتبتها في السابق مرتبطة بعورة الصحافة ولا دخل للمحافظة بها. وهنا ازيد عليها ظاهرة الصحافيين (اللي بياخدوا فلوس). فمعروف في قنا والاقصر ان معظم صحافيي القاهرة لديهم تذكرة طيران مدفوعة، وكذلك اقامة مجانية في قنا والاقصر شريطة ان يعود الصحافي الى جريدته في القاهرة، او الى محطته التلفزيونية، او الى برنامجه في الراديو، ليمتهن مهنة اخرى غير الصحافة، وهي مهنة «التلميع» وهنا لا استخف بمهنة ماسحي الاحذية، ولكن التلميع اصبح ظاهرة، وان كان في نقل العبارة صفة مرتبطة بالاحذية الى صفة ترتبط بالبشر، في ذلك احتقار مبطن للمَّلمعين والملمِّعين في آن. وكثير من الصحافيين يعرفون الظاهرة ويسكتون عنها. هذا المقال هو لعب في عش الدبابير، فالآن سينبري «الملمعاتية» لكتابة ردود على هذا المقال.

هذه المرة في صحيفة من صحف «المؤلفة جيوبهم»، خصوصا تلك التي يرتبط اصحابها بمصالح محددة وايضا بدلا من استقصاء الحقائق سيهتف صاحبنا بان فندي هذا ضمن مؤامرة امريكية لتشويه صورة بلدنا.

امثالكم هم الذين يشوهون الصورة لمجرد وجودهم فيها، نحن نصف ما هو قائم، انتم تشوهون وتقبضون وتمرحون ولا داعي لإلصاق اي شيء بالوطنية تعلمت من تجربة اربعين عاما انه عندما يقول لي احدهم انه «غيور على الوطن» اجدني اتوماتيكيا اتحسس جيبي. الغيورون على الوطن يعملون ولا يتحدثون، وكذلك يفعل الغيورون على البيئة وصحة المواطنين «الغلابا» في هذه البقعة المعدمة من ارض مصر.

بقيت نقطة اخيرة وهي انه نتيجة لهذه الفقرة الخاصة بقنا في مقال «عورة الصحافة العربية» ارسل إلي اهلي رسالة يقولون فيها: ان الكتابة في «الشرق الأوسط» ضارة بالصحة. لانهم منذ ذلك الحين يتعرضون لمضايقات. وما قلته في مقالي السابق هو الحقيقة المبنية على زيارة ميدانية لقوص ومن يقول غير ذلك ننصحه بزيارة ميدانية.

* هذا مقال محلي يشفع له رمزيته ودلالته فالعولمة، كما يرى صديقنا عثمان العمير هي في الأصل محللة