ثقافة المناكفة

TT

أحزن الدكتور ديفيد كيلي اسرته واصدقاءه، ولم ينصف نفسه. مزّق شرايينه ثم تركها تنزف، فمزّق معها شيئا من الحقيقة وتركها تنزف لتموت معه، هو الذي مات عاشقا لها ومن اجلها. رحل العالم البريطاني عن هذه الدنيا بعد معركة قصيرة جدا بدا غريبا عنها. لم تكن معركته. كيف يقاتل ذلك الخلوق، الدمث، الذي بالكاد تسمع صوته، مكيافيليين مستعدين لدعس كل ما ومن يقف في طريقهم. لكن، أيلام عالم محترم وجد نفسه فجأة يوصف بأنه «نفاية»، «تبن»، «مغفل»، «ساذج»؟

هذه اوصاف سمعها الدكتور كيلي اثناء استجوابه من لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني. وقبل ذلك الاستجواب كان الرجل تعرض للشي على نار اسئلة محققي وزارة الدفاع، وهو احد موظفيها، على مدى خمسة ايام متواصلة. كل هذا لأن ضميره لم يسمح له ان يظل صامتا وهو يرى ويسمع تفاعلات الحرب الدائرة بين الحكومة وهيئة الاذاعة البريطانية. عندما أحس الدكتور كيلي انه يجب ان يطلع رؤساءه على حقيقة انه التقى اندرو غيليغان (الصحافي الذي بثت الاذاعة تقريرا له في يونيو الماضي حول ملف نشرته الحكومة عن اسلحة الدمار الشامل في العراق في سبتمبر الماضي وتضمن التحذير الشهير بامكانية استخدام تلك الاسلحة ضد بريطانيا خلال خمس واربعين دقيقة) فانه بادر الى مصارحتهم بتلك الحقيقة، وهم من جانبهم وعدوه الا يتسرب اسمه لوسائل الاعلام. لكن هذا الوعد لم يحترم. والذي لم يحترمه تحديدا، كما تشير معظم التخمينات، هو ألستير كامبل، أحد أقرب المقربين من توني بلير، وجنرال حروبه الاعلامية. لماذا تسريب اسم كيلي؟ أولا، لأن لا وعود في قواميس السياسة والسياسيين. وثانيا، لأن كامبل قرر ان يخوض «أم المعارك» مع الـ «بي بي سي»، وهل يتردد خريج صحافة التابلويد التي لا تعرف خطوطا حمراء، في استخدام كل اسلحته في هذه المعركة؟

بالطبع لا. وهو ما حصل. لكن، السؤال الكبير كبر اكثر وولد اسئلة اخرى الآن مع انتحار الدكتور كيلي. هل صحيح ان الحكومة ضغطت من اجل جعل ملف الاسلحة اكثر اثارة؟ وهل حقا اصرت على فبركة تحذير الـ «45 دقيقة»؟ وهل كان صحافي الـ«بي بي سي» دقيقا في نقل كلام الدكتور كيلي، أم انه هو الذي اراد تقريرا اكثر اثارة؟ ربما يجيب التحقيق الذي سيجريه القاضي هاتون عن بعض هذه الاسئلة، لكن المؤكد هو ان انتحار الدكتور كيلي زاد الامور تعقيدا. واللافت ان هذا الانتحار بقدر ما أحزن اسرة الدكتور كيلي واصدقاءه، فانه كان ايضا صدمة لمعظم الناس العاديين. يبدو اننا نحتاج من حين لآخر الى مأساة كهذه لتذكرنا ان السياسة بلا قلب، وان انانية السياسيين هي صمام قلوبهم وعصب أدمغتهم.

ترى كيف رأى العالم العربي مأساة العالم كيلي؟ وكيف تابع معركة حكومة بلير مع الاذاعة البريطانية؟

لعل في هذه المأساة وتلك المعركة ما يذكرنا ببعض ما نفتقده. شيء من ثقافة المناكفة التي لا تهدف فقط الى التشاوف، بل تريد الحقيقة أولا وقبل كل شيء.

هذا جهاز اعلامي ضخم تموله الحكومة ولا يتردد في مناكفة الحكومة قبل غيرها.

انه يناكفها دائما. معظم حكومات بريطانيا دخلت في خصومات مع هيئة الاذاعة البريطانية. لم يخف مذيع من وزير، ولا اداري من ضابط شرطة. بالعكس، ترى الوزراء احيانا مرتبكين وهم يجيبون على اسئلة بعض المذيعين المشهود لهم بالجرأة لدرجة «الوقاحة». حتى مارغريت ثاتشر، بعنفوانها وقوة شخصيتها، دخلت في اكثر من معركة مع الـ «بي بي سي»، في واحدة منها اعترضت السيدة الحديدية على تقارير كيت ايدي من طرابلس عن الغارة الاميركية على ليبيا.

هنا، يختلفون مع اذاعتهم ويخوضون معها معركة تلو اخرى، لكنهم لا يجرون العاملين فيها الى الزنازين ولا يطردونهم من وظائفهم الى الشوارع. في معظم اقطارنا يرتعد العاملون في الاذاعات هلعا كلما اضطروا الى التعامل مع مادة اعلامية تخص الكبار. ذات مرة سخر مسؤول عربي من اذاعة بلده خلال حديث مباشر منقول على الهواء، فقال ان مسؤولي الاذاعة ينافقونه ببث تصريحاته

اكثر من مرة، وعندما قرر مسؤولو الاذاعة عدم تكرار بث ذلك التصريح انتهوا في السجن في المساء ذاته.

ثمة فرق في الثقافة، أليس كذلك؟

[email protected]