الثوابت الوهمية: (الكفر ملة واحدة)

TT

(الكفر ملة واحدة).. هذه مسلّمة وهمية. أو (ثابت وهمي) لا يفتأ يتردد على ألسنة مسلمين كثيرين وعلى أقلامهم ـ أمس واليوم ـ وكأنه (حقيقة لا ريب فيها).

ولقد اشرنا ـ في غير مقال ـ إشارات موجزة إلى هذه المقولة الخاطئة مستدلين بآية «ليسوا سواء» في موضعها وابانها، فجاء احد الخطّافين فساقها في غير سياقها.. وهذه ازمة الذين يتسرعون بالكتابة قبل ان يعلموا، او تكون لهم قدم راسخة في العلم والفكر. وهي ازمة سنعود الى الحديث عنها في قابل الايام ان شاء الله.

ان (الكفر ملة واحدة) عبارة غير صحيحة ترتب عليها علم غير صحيح، ومواقف غير سليمة. ولئن نقضناها من قبل ـ في ايجاز ـ بالآية الآنفة، «ليسوا سواء»، فإن هذا الدليل ليس مفردا ولا معزولا. بل هو (قاعدة واحدة) فحسب في سياق (منهج كامل)، حان وقت اجتلائه والصدع به، وهو منهج ذو براهين ساطعة ومستفيضة.. منها:

اولا: برهان التمييز بين طائفة وطائفة:

1 ـ «ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا انفسهم».. و(من) لا تفيد العموم.

2 ـ «فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة».

ثانيا: برهان التفريق بين فريق وآخر:

1ـ «وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون».

2 ـ «نبذ فريق من اهل الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم».

3 ـ «وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون».

ثالثا: برهان الكثرة والقلة ـ وهو برهان تمييزي ايضا:

1 ـ «ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم».. كثير منهم.. وليس كلهم.

2 ـ «منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون».

3 ـ «وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان».

4 ـ «ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا».

رابعا: برهان الاختلاف فيما بينهم:

1 ـ «وان الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد».

2 ـ «ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات».

3 ـ «وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء».

والواقع التاريخي يؤكد هذا الاختلاف العاصف.. اما (الوفاق) الذي جرى في العقود الاخيرة فهو وفاق سياسي لا عقدي يدل على ان العقائد الدينية تسخر وتستغل وتوظف في خدمة الاهواء اوالمصالح السياسية.

رابعا: برهان التباين في التصور والحكم والعلاقة:

1 ـ لو كان (الكفر ملة واحدة)، لما انحاز المسلمون ـ انحياز المؤيد المبتهج المتمني ـ الى الروم النصارى، ضد الفرس المجوس في الحرب التي كانت مشتعلة بين الطرفين ابان الطور المكي لمجيء الاسلام: «الم. غلبت الروم. في ادنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله».. قال سفيان بن سنيد ـ في تفسيره ـ وهو شيخ البخاري: «حدثنا حجاج عن ابي الزناد عن ابيه عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الاسلمي انه قال: لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: «الم. غلبت الروم. في ادنى الأرض» الى قوله «وهو العزيز الحكيم». خرج ابو بكر وهو يقرؤها بمكة رافعا بها صوته. فقال له رؤوس اهل امكة: ما هذا يا ابن ابي قحافة، لعله مما يأتي به صاحبك؟. قال: لا والله، ولكنه كلام الله وقوله تبارك وتعالى. قالوا: فذلك بيننا وبينك ان ظهرت الروم على فارس في بضع سنين، فراهنهم ابو بكر بفتح الروم على فارس دون التسع. فأسلم عند ذلك خلق كثير من المشركين.. واورد ابو جعفر الطبري عن ابن عباس انه قال: «كان المسلمون يحبون ان تغلب الروم على فارس لانهم اهل كتاب. وكان المشركون يحبون ان تغلب اهل فارس لانهم اهل اوثان».. ومعروف انه حين جاء النبأ بنصر الروم النصارى على الفرس المجوس الى مكة: فرح النبي، ومن معه من المؤمنين بهذا النصر: «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله».. بنصر الله!!!

2 ـ ولو كان الكفر ملة واحدة ، لما فرّق القرآن بين موقفي اليهود والنصارى من المسلمين: «لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى».

3 ـ ولو كان الكفر ملة واحدة، لسوّى الاسلام في التزاوج او الأنكحة بين الكتابيين والمشركين. فقد حرم الإسلام الزواج من المشركات: «ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن»، في حين احل الزواج من الكتابيات ـ يهوديات كن أو نصرانيات ـ: «اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم».

الخلاصة المفيدة:

العلمية والعملية

إن القرآن: كتاب (العدالة المطلقة) لانه كلام الله الحكم العدل، القائم بالقسط الذي وضع الكون على ميزان الحق والعدل والذي حرم الظلم على نفسه.. والقرآن ـ كذلك ـ: كتاب (الامانة العلمية) التامة، والمعيار الحق في النظرة الى الناس، وفي الوصف والتصنيف والتقرير والحكم، مثلا: نقرأ في هذا الكتاب المجيد: «ومن اهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك».. وهذا الوصف بالامانة نزل في طائفة من اليهود، على الرغم من ان طوائف أخرى منهم عادت الاسلام والمسلمين عداء شديدا.. والفقه المستنبط من هذا: انه اذا كان فريق من الناس يبتعد عن الله ثلاثة امتار (المثل حجازي طبعا)، فإن القرآن لا يصف المسافة بأنها ميل فضلا عن ثلاثة اميال.. واذا كانت خطيئة انسان او قوم تزن رطلا او كيلو فلا يحل لمسلم ان يصفها بأنها قنطار او طن: «واقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان». ان هذا التصوير المنهجي، والتصنيف الموضوعي، والميزان القضائي، والحكم العادل: تنبني عليه نظرة واقعية عملية، ورؤية دبلوماسية وحضارية حصيفة للعالم الانساني الذي يكتنفنا ونكتنفه.. أي تنبني عليه نتيجة او خلاصة علمية وعملية مفيدة، من صورها وصيغها: أ ـ ان الكفر ليس ملة واحدة. فبراهين المنهج اثبتت ان هناك تفاوتا واختلافا.

ب ـ تحديد (دائرة العداوات). ذلك ان عدم التحديد ذريعة الى الهياج، والى فوضى تصور العالم كله بأنه (عدو)، ولا سيما في هذه الظروف المشحونة بما يحبط المسلمين، ويؤذي مبادئهم ومصالحهم.

ج ـ ترتيب العداوات لئلا يوضع رقم (5) موضع رقم (1) او رقم (2). فهذا التخبط تعبير عن ضلال استراتيجي، وخيبة عملية تنفيذية.

د ـ التركيز البصير على كسب الاكثرية غير المعادية او ـ على الاقل ـ تحييدها لكي لا تتحول هذه المنطقة المحايدة ـ بتقصير الذات او تحريض الشانئ ـ الى اعداء: غدا او بعد غد!!