منذ مقتل دوميير.. حرب متواصلة على الطموحات البشرية

TT

بعد نهاية الحرب العالمية الاولى عام 1918، والخلاص من آثارها طيلة سنوات العشرينيات من القرن الماضي، بدأت الثلاثينيات منه بداية هادئة رقيقة وناعمة، تزدري الحروب وويلاتها.. حيث اشتدت حركة المعارض والمهرجانات والمسابقات الرياضية في كل صقع من اصقاع الارض، واخذت الشعوب تنشط بالاحتفالات بالمناسبات القومية السعيدة، كما كثرت بشكل ملحوظ الاحتفالات بالزيجات الملكية هنا وهناك بين ارجاء المعمورة.

ومعظم الكتابات كانت تودع الايام السوداء، وترحب بالمستقبل الزاهر للبشرية، حتى جاء في عناوين بعض الصحف:

وداعا لمآسي الحروب، وعبث القتلة والمجرمين.. ومرحبا بالسلام. ولا حرب، لا فوضى بعد اليوم.. والى الأبد.

* * *

وتخيب الآمال كلها فجأة في الايام الاولى من شهر مايو 1932، عندما انطلقت ست رصاصات لتستقر في جسد بول دوميير رئيس الجمهورية الفرنسية، فترديه قتيلا.. وتنطلق فوضى الاغتيالات من عقالها، لتطيح بكبار الشخصيات الرسمية في مناطق متعددة من العالم.. وتظل البشرية تعاني من ويلات التوتر الى ان تأتي الحرب العالمية الثانية، لتطيح بكل طموحات الانسانية المتطلعة للسلام..!!

بول دوميير هو المثال الصادق للانسان العصامي المكافح.. تدرج من عامل فقير الى ان تبوأ رئاسة الجمهورية الفرنسية.. لم يقاس أحد في حياته من متاعب وشظف عيش وكوارث اجتماعية، مثلما قاسى ذلك الرجل.. الذي بدأ السلم من اولى درجاته.. حيث كان ابوه هو الآخر من عمال السكك الحديدية، بدأ معه بعد ان انهى دراسته الثانوية.. ثم انتقل الى مصنع لسك الاوسمة والنياشين، كان يعمل ليل نهار، يشتغل في الصباح ويدرس بالليل، حتى حصل على البكالوريوس في الرياضيات البحتة، وكان عمره آنذاك في الخامسة والثلاثين.. لكنه تخرج بامتياز على كل زملائه.. فعين معيدا في معهد الصناعات والفنون في اورليان وما جاء عام 1888، حتى كان نائبا لهذه المدينة في البرلمان الفرنسي، وانتخب عام 1931، بأغلبية ساحقة كرئيس للجمهورية.. ولم يمض في المنصب الرئاسي اكثر من عام وشهر واحد فقط!! حتى تعرض لعملية الاغتيال.

القاتل جورجليوف كان خطيبا لزوجة اليكس ابن رئيس الجمهورية، فظهرت بعض التحليلات: على انها جريمة عاطفية لا علاقة لها بالسياسة، وان القاتل هدد من تزوج خطيبته بأنه سيدفع الثمن في اقرب الناس اليه!!

ويقال ان القاتل كتب اربعة اسماء على اربع ورقات وهي (مدام دوميير) الأم، (بول دوميير) الأب، (اليكس دوميير) الابن، ثم (مارجريت دوميير) زوجة الابن، ثم اجرى قرعة لسحب احد الاسماء بعد ان وضع الاوراق في كيس، فظهر له اسم دوميير الأب!!

ويزعم القاتل ان حظ القتيل السيئ هو الذي جعله عرضة للرصاصات في ذلك اليوم وانه ـ اي القاتل ـ كان معجبا بالرجل وبكفاحه ولكنه لا ينسى ان ابنه اليكس قد اختطف منه خطيبته مارجريت ليتزوجها.

لكن كلود فارير وزير الثقافة الفرنسي يقول: «لست اصدق ما جاء على لسان القاتل من اسباب شخصية وعاطفية او ما شابه ذلك!! انها جريمة سياسية والقاتل قد اخترع هذه القصة الخرافية على امل ان يخفف عنه الحكم».

ويتحدث الوزير عن تفاصيل يوم مقتل الرئيس فيقول: «ليتني لم ادعه لافتتاح ذلك المعرض!! لو لم يقتنع بفكرتي بالذهاب، لكان الآن على قيد الحياة!!».

ففي يوم الجمعة الموافق 6 مايو 1932، اقامت جمعية المحاربين القدامى التي كان يرعاها بحماس شديد، معرضا للكتاب ودعته الى حفل الافتتاح.. كنت بجانبه ساعة نزل من سلالم قصر الاليزيه، وكانت البرك المائية في فناء القصر الرئاسي كثيرة بسبب الامطار التي لم تتوقف منذ ايام.. وقد اقترح الكولونيل بيجو ياوره الخاص ان نخرج من الباب الخلفي، لأن الجماهير الغفيرة المحتشدة في الميدان المواجه للقصر كبيرة جدا، ورجال الحرس قليلون، فرد عليه قائلا:

«يا عزيزي بيجو، مَنْ يفكر بحق السماء باغتيال عجوز مثلي تجاوز السبعين من عمره؟!!»، ثم صمت وأخذ يفكر.. وكأنه قد اكتشف شيئا ونظر الينا قائلا:

«انها لنهاية مثيرة، بعد حياة مملة.. ان اموت اغتيالا!!».

فقلت له:

«بحق السماء لا تقل هذا يا صاحب الفخامة!!» فالتفت اليّ قائلا: «الحق يا كلود.. ان احساسا ملحا يلازمني منذ ان صرت رئيسا للجمهورية بأنني لن اتمكن من اتمام مدة الرئاسة!!».

والكوارث لازمت بول دوميير في حياته، اذ فجع بمقتل اربعة اولاد في الحرب العالمية الاولى، وبعدها بأقل من نصف عام ماتت اخته حرقا.. وغرقت امه في حوض الاستحمام.. وكان لا يملك من حطام الدنيا غير بضعة اسهم في احدى الشركات التي اعلنت افلاسها، فضاع كل ما كان لديه من مال..!!

ويصل الرئيس الفرنسي بول دوميير الى معرض الكتاب في القاعة الكبرى، ويلتف حوله كبار الكتاب، وكذلك يلتف حوله عدد من خصومه السياسيين ممن كانوا يوقرونه ويكنون له الاحترام رغم اختلافاتهم معه في النهج السياسي.. ثم بدأ يدور في قاعات المعرض متأملا ما كان على الرفوف من كتب وما على الحيطان من لوحات وكان مبتهجا، مرحا، بشوشا، خاصة وهو يداعب صديقه وزير الثقافة حول كتابه الموجود في المعرض، والذي توجه باهدائه اليه.. في هذه الاجواء المشبعة بالثقافة والمرح والابتهاج.. وقع هول المفاجأة، عندما ظهر من باب مواجه لخط سير رئيس الجمهورية الفرنسي.. ظهر جورجليوف وفي يده مسدسان.. وسرعان ما اطلق ست رصاصات على الرجل المسالم، من مسافة لا تتجاوز المترين.. تولى احد الاطباء فحص الجثة التي اغرقت في الدماء، فأعلن ان الرئيس قد مات.. لكن وزير الثقافة اصر على نقل الجسد بأسرع وقت الى قصر الاليزيه، حيث اجتمع اركان الدولة يتداولون في صيغة البيان الذي سيعلن على الشعب الفرنسي.. في هذه الاثناء، فتح الرجل الذي ظنوه قد مات.. فتح عينيه، وصدرت منه حركة.. فألقت زوجته بنفسها عليه، وهي تنتحب.. حاول وزير الثقافة كلود ان ينهض زوجة صديقه قائلا لها:

«يحسن ان تأتي معي الآن، حيث ستعنى بك زوجتي».

فأجابته وهي ممزقة الاحشاء:

«لا يا كلود.. لقد تركته لكم طيلة عمره كله.. دعوه الآن لي لأعيش معه، ولو للحظات.. فاحتضنت رأسه وقد فارق الحياة وهو بين ذراعيها».