تجربة جديدة بحاجة إلى جهد كبير

TT

تناول المقال الماضي الحوار الوطني السعودي الذي عقد في الرياض بين 15 ـ 18 يونيو (حزيران) 2003 الماضي، وشارك فيه 35 رجل دين سعوديا يمثلون علماء السنة الحنبلية، وعدد من علماء الشيعة الإمامية ومن الشيعة الإسماعيلية والسنة المالكية، وأشيع أن هناك كذلك مشايخ من الصوفية دون تحديد الشخصية أو الطريقة التي يمثلها. نتناول هنا بعض التوصيات:

التوصية الأولى لم تعرّف الوحدة الوطنية، أو المقصود بالحوار الفكري الذي ينبغي أن يكون هو منطلق الجلسات. وتم، في الفقرة الثانية من التوصية الأولى، تناول قضية الاختلاف والتنوع الفكري وتعدد المذاهب كواقع مشاهد في حياتنا، وتوجهت التوصية إلى «استثماره في التأسيس نحو استراتيجية التعامل في الدعوة والنصح والحوار وتوجيهه الوجهة السليمة التي تخدم أهداف المملكة وثوابتها وقيمها الشرعية». إن حواراً يبدأ باعتبار أن الآخر على خطأ وأنا على صواب يمكن أن يطلق عليه أي شيء إلا صفة حوار. كما أن من المهم تفنيط «الثوابت» و«القيم الشرعية» ووضعها على الورق للاحتجاج بها أو مناقشتها إن كانت قابلة للنقاش.

الجزئية الثالثة في التوصية الأولى تناولت الواقع المعاصر والتقدم التقني وضرورة أخذهما في عين الاعتبار لحماية الدين والوطن والمواطن، «الأخذ في الاعتبار الواقع المعاصر والتقدم التقني في الاتصالات وتداول المعلومات بسرعة دون موانع أو عوائق، مما يحتم ضرورة وضع أساليب جديدة لحماية الدين والوطن والمواطن». وتتردد في النص جملة حول أن التقدم التقني وتداول المعلومات يتم بسرعة دون موانع أو عوائق. فمن غير الواضح هنا ما هو المطلوب أخذه بعين الاعتبار، هل هو حماية الدين والوطن والمواطن بإيجاد طريقة تمنعه من الاستفادة من الواقع المعاصر والتقدم في الاتصالات وتداول المعلومات، أم التخفيف من الحواجز الموضوعة على وسائل الاتصال سيما شبكة الإنترنت.

التوصية الرابعة نصت على «المحافظة على الوحدة الوطنية لهذه البلاد المبنيّة على العقيدة الإسلامية الصحيحة وعلى الثوابت الشرعية التي تستمد منها الدولة نظامها، ويستمد منها المجتمع هويته، وتعميق معاني البيعة والسمع والطاعة بالمعروف تحقيقاً للجماعة، ومنعاً من الافتراق والتشتت، واستتباباً للأمن بكل معانيه المادية والمعنوية». وفي هذه التوصية، كما فيما سبق، تركيز على جملة «العقيدة الإسلامية الصحيحة» التي غالباً ما يستخدمها بعض العلماء للإشارة إلى فرق إسلامية أخرى لها ثوابتها المختلفة، ولها عقيدتها الإسلامية أيضاً، ونأمل ألا تكون العقيدة الإسلامية الصحيحة حكراً على فرقة دون أخرى.

ويتوالى تكرار هذا النسق في التوصية الثالثة عشرة عند تناول أهمية الحوار، فينص على «أهمية الحوار كوسيلة للتعبير عن الرأي وأسلوب للحياة وتأطيره لتحقيق التعايش من خلال منهجية شاملة تلتزم بالأصول والضوابط الشرعية». وفي التوصية التي تليه حول الاختلاف والتنوع الفكري ينص على أن «الاختلاف والتنوع الفكري سنة كونية وحقيقة تاريخية، لذا لا يمكن إلغاؤه وتجاوزه، وإن ما يخفف من آثاره الضارة اعتماد منهج القرآن الكريم في الحكم على الآراء والأشياء والأشخاص بتحري الحقيقة والموضوعية والعدل، والتعايش مع هذا الاختلاف وضبطه، والتفريق بين الثوابت والاجتهادات في مجال التنوع والاختلاف، وتحديد مرجعيته بالكتاب والسنة».

إن هذه التوصيات تجمع على النظر إلى الاختلاف كشيء ضار يحتاج للتخفيف من آثاره. وتجمع على ضرورة أن يكون الحوار وسيلة لمنع التنوع والاختلاف وتحديده وضبطه وكبحه وتأطيره، ومن ثم يمكن التعايش معه بعد أن يلزم كل الأصول والضوابط الشرعية والثوابت التي مرجعيتها الكتاب والسنة.

أما التوصيات التاسعة والحادية عشرة والثانية عشرة فهي ترد في جمل عمومية لا تتخذ موقفاً واضحاً من القضايا المطروحة، وتوحي بأنها تعمل على ألا تفقد فئة واحدة من فئات المجتمع موقع سلطتها أو أن تتشارك فيه مع فئات أخرى، أو بأنها تشعر بشيء من التهديد فتحرص على تأمين نفسها بالحماية والاحترام في وسائل الإعلام خاصة. «على وسائل الإعلام مراعاة الإسهام في تعضيد الوحدة الوطنية وعدم المساس بالثوابت التي قامت عليها واحترام العلماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالحسنى» (التوصية ـ 9). الإسلام دين وسط في العقيدة والأحكام الشرعية لا يقبل الغلو والتشدد، كما لا يقبل التحلل من الثوابت الشرعية، ويفرق بين التشدد والغلو والتمسك بالسنة والالتزام بها(التوصية ـ 11). «قاعدة سد الذرائع من القواعد التي شهد لها الشرع بالاعتبار وهذه القاعدة ينبغي إعمالها بتوسط واعتدال فلا يهمل إعمالها ولا يتوسع في استخدامها بما يؤدي إلى التضييق والتشدد فيما يكون في دائرة المباحات» (التوصية ـ 12). وعندما تعرضت التوصيات لمكانة الفتوى وأهميتها في حياة المجتمع المسلم لم يُنص على أن الفتوى سوف تراعي المذاهب الأخرى، متعاملة معها وكأنها غير موجودة. «للفتوى مكانة سامية ومهمة عظيمة في المجتمع المسلم، ولذا تتأكد حاجتها إلى مواكبة العصر والتواصل مع مختلف المجامع الفقهية وتفعيل الاجتهاد والاستفادة من المختصين في العلوم الأخرى. وتأسيس مراكز للدراسات والبحوث العلمية المساندة للفتوى وتكوين لجان للفتوى في مختلف مناطق المملكة» (التوصية ـ 17).

أما التوصية السادسة عشرة فقد دعت إلى ضمان حرية التعبير، ثم كبلته بقائمة من القيود، «ضمان حرية التعبير عما يراه المسلم حقاً وفق الضوابط الشرعية المعتبرة بما لا يتعارض مع محاسبة من يمس الثوابت الشرعية أو المصالح المتفق عليها أو حريات الآخرين».

وتوالت بعد ذلك التوصيات التي تتناول المحور الثاني الخاص بالعلاقات الخارجية بالدول غير الإسلامية.

لقد كانت الدعاية الأساسية لهذا التجمع، عندما أعلن عنه في مرحلته الأخيرة، هي إقامة حوار وطني بين علماء المذاهب الإسلامية القائمة في المملكة (الذكور فقط)، وضمت بالتالي مجموعة من علماء السنة الحنبلية، وهم الأغلبية، وعددا من علماء الشيعة الإمامية ومن الشيعة الإسماعيلية والسنة المالكية. ولكن التوصيات لا تحمل إشارة إلى وجود هذا المزيج من التنوع، ومن ثم لا تحمل تنوعاً حقيقياً بل تحتار في مضامينها التي اتسمت بالعمومية وبحكرها في كل نقطة من نقاطها على فئة واحدة من الفئات التي تداولت الجلسات، فلم يخرج الموضوع عن اتجاه مجموعة واحدة وهي الأغلبية السنية الحنبلية ولا يبدو أنها تركت أي مساحة لاختلاف المذاهب الأخرى معها.

من غير الممكن أن ينجح حوار يكون من طرف واحد، أو سرياً، أو أن يقتصر على رجال المجتمع دون نسائه، وعلى فئة العلماء الدينيين فيه فحسب. ومن غير المفهوم الخشية من اعلان اسماء المشاركين.

لكن هذا لا ينفي أن اللقاء خرج بعدد من التوصيات المهمة التي تحتاج الى تفعيل ومتابعة. فقد اقترح المجتمعون إنشاء مركز للحوار الوطني يعنى بتنظيم اللقاءات وإعداد البحوث. ونأمل في حال انشئ هذا المركز أن يضم اليه النساء نصف المجتمع.

وكان من التوصيات الجديرة بالثناء ايضا، المناداة بالتوازن في توزيع برامج التنمية بين مناطق المملكة وخاصة الريفية، لتدعيم الوحدة الوطنية عن طريق معالجة هموم المواطن اليومية.

والدعوة التي نتمنى الاستجابة لها، سيما أنها تعد قارب النجاة لمجتمعنا في هذه الفترة الحرجة من التفاعلات التي تعتمل في بلادنا، هي «الاستمرار في عملية الإصلاح بكافة جوانبه، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية» لتعزيز الوحدة الوطنية وتعميق مشاعر الانتماء.

ولِنقْل التوصيات إلى الواقع العملي من الضروري تضمين مناهجنا ووسائل إعلامنا المعلومة المحايدة عن كل فئة من فئات مجتمعنا المختلفة.

من الواضح أن المطلوب من هذا التجمع كان شيئاً أكبر مما خرج به، لكن من الضروري إدراك أنها تجربة لم يألفها مجتمعنا من قبل، ولم يألف التفكير فيها أو مشاهدة الجهات الرسمية تتبناها أو أصحاب الفضيلة من مشايخ المذاهب الإسلامية يجتمعون تحت سقف واحد لأجلها. إننا ما زلنا نأمل أن تكون هذه التجربة الجديدة فاتحة خير للخطو نحو عالم جديد يمكن للمجتمع كله أن يتمثل فيه وأن يعبر عن رأيه فيه.

* مؤرخة وكاتبة سعودية