الأعرابي والجنتلمان (1)

TT

هناك مشكلة مهمة تواجهها هذه الملايين من المسلمين والعرب المغتربين لم يلتفت اليها احد حسب علمي. وهي مشكلة خطيرة لأن ابعادها تتصل بالارهاب والاصولية المتطرفة. لا يوجد فرق ثقافي كبير في بلادنا بين الاغنياء والفقراء، والخاصة والعامة. فسائق السيارة يتكلم نفس لغة سيده ويطرب لنفس الموسيقى والاغاني ويحمل نفس الذوق في معظم الميادين. وربما يكون السائق اكثر الماما بالادب والشعر والسياسة من سيده. الفرق الوحيد هو الثروة، وربما الشهادة ايضا. فقد يحمل سيده دكتوراه او ماجستيرا. لهذا انصب كل اهتمامنا التربوي على تمكين اولادنا من نيل الشهادات وكسب دخل جيد. قلما يفكر احدنا باعداد اولاده فنيا وادبيا وحضاريا. ليس بيننا من يأتي بمعلم يعلمهم الموسيقى او الرسم او الرقص او لعب التنس. ولا احد منا يعبأ بتحسين ذوق اولاده او سلوكهم الاجتماعي.

الموقف ليس كذلك في الغرب. قلما يعبأون في بريطانيا بالشهادات، حتى في الحصول على الوظائف، ويعتبرون التبجح والتباهي بها قلة ادب وسوء تربية. وما زالت هناك عوائل تقليدية تأبى ارسال بناتها للجامعات. يأتون بمعلمين لهن يعلمونهن الموسيقى والرقص والفنون واساليب الحياة الراقية، ثم يبعثونهن الى ما يسمى بمدارس التنهية Finishing School في سويسرا ليختمن ثقافتهن العامة والتكلم بالفرنسية وتنمية اذواقهن وشخصياتهن.

يحرصون منذ الطفولة على تزويد الاولاد بثقافة الجنتلمان التي تشمل عزف وتذوق الموسيقى والفنون الاخرى والاطلاع على الادب والفلسفة واتقان اساليب وقيم الحياة الراقية اعتبارا من المأكل الى الملبس، كآداب المائدة والمحادثة والاحترام. ترى الأم او المربية تركض بالطفل من متحف الى متحف، ومن معرض الى معرض، ومن حفلة موسيقية الى اخرى، وحتى في الدخول الى الجامعات ترى الاسر الارستقراطية تختار الدراسات المختلطة كالبي بي إي (الفلسفة والسياسة والاقتصاد) لضمان الحصول على ثقافة شاملة وآفاق واسعة.

هذا هو سر البون الطبقي الثقافي بين الخاصة والعامة المتمثل باختلاف اللغة والذوق والشخصية بين الطبقتين. ابن العامل يستمع لمادونا وابن الاستاذ يستمع لبتهوفن. قلما انتبهت العوائل المسلمة لهذه المسألة. جاءوا محملين بذهنية الحصول على الشهادات والفلوس. ولهذا برز اولادهم في ادائهم المدرسي والاكاديمي وتفوقوا على الانجليز فيه. ولكنهم تجاهلوا ذلك الجانب الذي يجعل من الشاب الخريج جنتلمانا. بقوا على تخلفهم الحضاري بمقياس حضارة الدولة المضيفة. وقدر لهذا الاختلاف بين البدوي والجنتلمان ان يؤدي الى نتائج محزنة.

هذا ميدان عرفته وخبرته بصورة شخصية، النتيجة الاولى هي ان الشاب المسلم يبقى معزولا ومرفوضا. فعندما يجلس بين زملائه الجامعيين والخريجين الانجليز يجدهم يتحدثون عن آخر مسرحيات ستوبارد وبرامج اوبرات غلنبورن والمعرض الصيفي للاكاديمية الملكية ونحو ذلك من المواضيع التي لا يعرف عنها اي شيء، يجلس ساكنا كاليتيم في مأدبة اللئام. اخيرا يفتح فمه بالشيء الوحيد الذي يعرفه، قضية فلسطين والاستعمار فيلاحظ الزملاء ينفضون من حوله ويبدأون بتحاشي مجالسته. يعود للبيت متذمرا فيقول هؤلاء الانجليز قوم جهلاء لا يعرفون اي شيء عن فلسطين. وتبدأ الهوة.

يصل المهني العربي قمة مهنته طبيبا او محاميا او مهندسا او عالما، ولكنه يبقى شخصا نابيا واحيانا مرفوضا بين اصحابه. تتعاظم الهوة بانسحابه التدريجي من عالمهم فيموت دوره كمواطن بريطاني ويعيش على هامش هذا المجتمع.

يصبح المواطن المسلم مستهجنا او مرفوضا، عندما يكشف عن اخفاقه ايضا في اكتساب الاساليب الحضارية المتعارف عليها في هذه الحضارة الغربية. يتكلم في القطار والباص بصوت عال، لا يعطي المرأة ما تتوقعه من رجل جنتلمان. يحضر حفلة وهو يفوح بروائح الثوم والبصل والكاري، يكشف عن سوء ذوقه وفقره الفني في كل شيء يختاره او يفعله، في ما يلبسه ويأكله وفي ما يؤثث به بيته، ولا اريد ان اسهب هنا بكل عاداتنا الذميمة التي يستهجنها حتى اهلنا ومجتمعنا في بلادنا. ولكن لهذا الانفصال والرفض آثار مخيفة مما سأعود اليه غدا.