أكذوبة الوهم

TT

الحياة خليط من مسالك متشابكة، متناقضة المضامين، تفصلها عن بعضها البعض شعيرات رفيعة، مما يُوقع الإنسان في بحيرة من الحيرة لعدم استطاعته الفصل بينها، وتدفعه إلى التعلق ببعضها، واستهجان بعضها الآخر، لذا أصعب المواقف التي تمر بالإنسان هي حين يفقد قدرة التمييز بين الوهم والواقع، أو بين الحقيقة والعدم!!

وحياة الإنسان العربي قائمة على مجموعة من المراهنات منذ لحظة خروجه إلى الدنيا إلى أن يشب عن الطوق ويصبح فردا راشدا، وقد يُراهن على هدف يهدر عمره كله من أجل إثبات صوابه، ليكتشف في نهاية الأمر أنه كان عبثا في عبث! وقد يراهن على معنى سام ليلمس بطلانه مع مرور الأيام!! وقد يهتف بحياة حاكم ليلا ونهارا، ويرفع من قامته صباحا ومساء، ليدرك عندما يحين موعد رفع الستار، أنه كان من أعتى طغاة التاريخ! وقد يجوب الأزقة والحواري ويُعلّق اليافطات على الجدران لمناصرة ناخب ليكتشف أنه كان من كبار المغفلين، وأنه لم يكن سوى طُـعما لأهداف وضيعة، ووسيلة مضمونة استغلها هذا الناخب لتحقيق مآربه الشخصية!!

هذه هي حياة الإنسان العربي، كلها مجموعة من الحسرات والعبرات والصدامات!! مما جعله طوال الوقت يعيش حالة من التخبط المعنوي، لذا لا يجب أن يُـلام الإنسان العربي بعد كل هذا الكم من الخيبات المتتالية إن رمى نفسه في أوحال الوهم، وتمـرّغ في تربة الخيال!! فأحياناً كثيرة يشعر المرء بحاجته إلى الهرب من واقعه ليعيش وهما، حتّـى لو كان موقنا في قرارة نفسه بأنه يعيش أكذوبة صنعها بيده، ويستسلم طواعية لها ويتركها تنتشر كالآفة السامة في خلايا جسده لتقضي على كل أسلحته الدفاعية، بل ويصبح من أشد المدافعين عنها كجزء لا يتجزأ من مسلماته الحياتية!!

سألني قارئ سؤالا عبر بريدي الإلكتروني.. هل الإنسان العربي متوازن عاطفيا، حتّى يستطيع أن يحلم حلما طبيعيا؟! وبدوري أكمل تساؤله.. هل القهر الذي يتجرعه الإنسان العربي يوميا خلق جدارا سميكا حال بينه وبين تدفق انهار أحلامه؟! هل العجز الذي يتجرعه الإنسان العربي، من خلال مواقف ساسته المخزية، أصابه بالسكتة الدماغية، وترك جسده يسير على غير هدى في بلاد الله الواسعة؟!

لقد نُشرت في مصر، مؤخرا، دراسة علمية ميدانية، بيّنت أن هناك دجالاً لكل مائتين وأربعين مواطنا مصريا، وأن المصريين ينفقون عشرة مليارات جنيه سنويا على قراءة الكف وفك السحر والعلاج من الجان. بجانب الندوة التي عُقدت مؤخرا وتم الإعلان فيها، أن في مصر 4 ملايين مريض مصاب بالاكتئاب، معظمهم يلجأ إلى الدجالين، وإلى إقامة الزار لطرد الاكتئاب عنهم. هذه النتائج ليست محصورة في مصر وحدها، بل ان معظم البلاد العربية تنتشر فيها هاتان الظاهرتان وإن لم يتم الإفصاح عنهما علانية!! وانتقلت العدوى إلى القنوات الفضائية، التي أخذت هي الأخرى تؤلف سيمفونيات في الوهم، وتتبارى على تقديم فلكيين ودجالين للتنبؤ بالمستقبل، وفك الأسحار، لاستقطاب أكبر قدر من المشاهدين، الذين أخذوا يتخبطون في لجج أوهامهم!!

هذه الظواهر تنبع من ثقافة التربية التي ينشأ عليها الإنسان العربي، التي تقوم على التحايل وتشويه الوقائع!! ينشأ الطفل العربي في البيت على التبعية، وحين يدخل المدرسة يدرس حضارة أجداده العظيمة، وإنجازاتهم التي كانت نفعا للبشرية جمعاء، ثم يبترون ذاكرته من خلال منعه من أن يسأل لماذا لم يصل إلى ما وصل إليه أسلافه؟! لماذا لم يحقق ولو جزءا ضئيلا من نجاحاتهم؟! وحين يخرج للحياة العامة يحذرونه من مغبة السؤال، وأن من تدخل في ما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه، وإلا أصبح من الفئة الباغية، فقط مسموح له أن يحلم ويحلم فقط ما دام الحلم مربوطا داخل حظيرة النفس!! وتكبر هذه القناعة الذاتية في شرنقة أحلامه القائمة على التغابي إن صح التعبير، دون أن يفطن بأن الحلم صفة طبيعية عند كل البشر، لكنه قد يتحول إلى مرض نفسي حين ينحصر في رقعة الأوهام التي تعبث بحرية مطلقة في مقدراته!! وحين يفيق من غيبوبته ويُميّز الفارق بين الحقيقة والوهم، يكون الوقت قد فات وأصبح ذهنه فارغا من الداخل، ليس فيه إلا مجرد صور مزركشة من ماض جميل، تم تحنيطه وتعليقه على الأسوار العربية ليكون عبرة لمن لا يريد أن يعتبر!! مثله مثل صدى الصوت الذي يخترق سمعنا ونحن واقفون في واد سحيق، لا أثر للحياة فيه!!

من حق الإنسان العربي، بعد أن أصبح يعيش داخل حلبة مصارعة، أن يضمد جراحه بمسكنات وقتية، باللجوء للسحرة والمنجمين وقراءة الطالع، حتّى تهدأ نفسه المتعطشة لمعرفة الحقيقة، وتتعافى روحه التي أقعدها القهر والزيف؟! إن هذه الظاهرة لم تعد مقتصرة على البلدان العربية، بل تجاوزتها إلى بعض الدول الإسلامية كذلك، وكم أحزنني الخبر الذي قرأته عن إدمان الأطفال الأفغان للأفيون في مخيمات اللاجئين الأفغان بمدينة بيشاور، حيث قالت واحدة من اللاجئات ان تناول الأطفال للأفيون يحفزهم على العمل ويجنبهم الملل!!

من السهل تخدير الأجساد، ولكن كم هو صعب تخدير أمة من خلال تخدير أجيالها الصاعدة التي ستحمل لواء المستقبل يوما، فهذا يعني مزيدا من الانكسار والخيبة والتراجع الحضاري!! سر في شارع أوكسفورد بلندن، ستلاحظ كثرة الدجالين والمشعوذين، الذين ما أن يلمحوا سحنتك العربية حتّى يهرعوا صوبك، عارضين عليك قدرتهم الخارقة في كشف المستور، من خلال قراءة كف يدك، لإدراكهم بأنك تعيش منذ ولادتك على أكاذيب كبرى، وأن هناك ظمأ في داخلك لمعرفة ملامح حياتك المستقبلية. كلها أوهام لها زبائنها في عالمنا العربي، وسيظل سوق الدجل رائجا، وعادة دفن الرأس في حضن الوهم سارية، ما دام الناس فاقدين الأهلية في أوطانهم، وما داموا محرومين من الاستقرار النفسي!!