من سراديب المتفجرات إلى سراديب المشكلة

TT

(20 طنا و72 كيلو جراما من مادة «آر دي اكس» شديدة الانفجار، و981 مترا من فتائل التفجير، و524 صواعق تفجير إضافة لسيارات ودراجات نارية، كانت مدفونة في باطن الأرض في مزارع شرق السعودية ووسطها في الرياض والقصيم، ومعدّة للاستخدام في عمليات إرهابية كبرى، حسبما أعلنت السلطات السعودية مؤخرا. كمية ونوعية هذه المواد المكتشفة وطريقة تخزينها وتعدد نقاطها، ربما تكون مدهشة ومذهلة.

ولكن لم يستوقفني في بيان وزارة الداخلية السعودية عن هذه المضبوطات إلا أمران: الأول شرائط مسجلة تحوي أفكارا (مضللة) طبقا لتوصيف السلطات الأمنية. والثاني، صناديق لجمع التبرعات.

ما هي هذه الشرائط؟ وأي فكر تحوي، وإلى ماذا استندت، وبماذا استدلت، وماهي مصادر هذه الأفكار، وكيف اقتنع بها هؤلاء الشباب، وهل يوجد شيء يشابهها أو يؤدي إليها؟ ثم كيف كانوا يجمعون التبرعات، هل وصل الارتياح إلى درجة تخصيص صناديق للتبرع، أين كانت هذه الصناديق تُنصب، ومن كان يحشوها بالمال، هل كانت معلنة، أم كانت تتم بطرق مموهة، هل كان من يتبرع لهذه الصناديق يعرف إلى أين تذهب أمواله، أم كان يتم الالتفاف على ذلك وتمر هذه الأموال بمنحنيات منعرجة تعاد فيها صياغة الريال وتعديل وجهته، وهل كانت هذه الصناديق تستفيد من أموال داخلية أم خارجية؟ وهل تقوم السلطات السعودية بإتاحة هذه الأشرطة للصحافة والإعلام والمعنيين لدراستها واستعراضها ومعرفة ما فيها وتحليله؟ ففي النهاية هي مواجهة يحتل الفكر جانبا كبيرا منها، لأننا نريد أن نعرف هذا الخطاب الذي تستند إليه الجماعات الإرهابية في عملها العنفي، وأن نطلع على مسوغاتها وأسانيدها الفقهية والفكرية.

ولو أردنا أن نتوقع سلفا مضامين هذه الأشرطة، فلن تكون بعيدة عن أدبيات الجهادية السلفية المعلنة والقائمة على فكرة: الحاكمية، والولاء والبراء، ودار الحرب ودار الإسلام، ووجوب إقامة فريضة الجهاد في سبيل الله، ومناهضة الصليبيين وإعادة الخلافة الإسلامية التي أظلمت الأرض بعد أن زال بيرقها. هذه الأفكار والمقولات هي النسيج الذي يتكون منه خطاب العنف الإسلامي الحالي.

وهي أفكار ومقولات لم ُيتعرض لها نقديا بشجاعة إلى هذه اللحظة. هناك محاولات هنا وهناك لإعادة صياغة هذه المفاهيم، ولكن تظل المشكلة أعمق من ذلك. إنها مشكلة المنطلقات والبدايات. فليس مجديا أن نستخدم أدبيات الإسلام التقليدي أو أدبيات الأحكام السلطانية في مواجهة الإسلام الثوري الاحيائي. إنها مشكلة غياب مبحث الإنسان من بنية العلوم الإسلامية كما يقول المفكر المصري حسن حنفي. كيف نستعيد هذا الإنسان؟ هذا هو التحدي الذي يقف أمام العقل الإسلامي.

ليست مشكلة المسلمين، كما يقول الإسلاميون الثوريون، المجاهدون منهم أو (القعدة)، أن المجتمع الإسلامي لا يحكم بالشريعة الإسلامية. مشكلتهم هي في العطالة الحضارية والفقر وانعدام التنمية والعجز عن الاتصال بالعصر. هناك نزاع في مصدر المشروعية: هل هو تطبيق الشريعة أم إجماع المجتمع، كيف تحولت وظيفة الدولة في الفكر السياسي لجماعات الإحياء الإسلامي إلى مجرد حارسة للهوية الدينية وقوّامة عليها، وناهلة مشروعيتها من هذه الوظيفة بالتحديد، كما يشرح المفكر اللبناني رضوان السيد؟

إننا بحاجة لاصلاح كبير، لا إلى عمليات ترميم وترقيع لا تسمن ولا تغني من جوع. إن لم تذهب بنا هذه الأحداث الدراماتيكية المتسارعة إلى هذه الوجهة، فستذهب كل كلمات الشجب والإدانة إلى كهوف النسيان الباردة من حين إنهاء هذه الضجة، ليس القصد من وراء هذه الكلمات تعزيز الحل الأمني والإيغال فيه، بل إلى ماهو أبقى وأجدى، الحل الفكري. والحل الفكري ليس كلمات إدانة تنثر على صفحات الصحف المحلية، بل هو جهد منهجي منظم يسعى إلى إعادة تصميم اشكالياتنا الحقيقية وفك الاشتباك بين الديني والسياسي، وصرف طاقة التفكير: من محاولة استعادة صورة الماضي الإسلامي (الموهومة على كل حال) إلى التفكير في المستقبل، في الحاضر وتحدياته.

إذا مضينا في هذا المسار فإننا سندخل في خضم عملية كبرى تتجاوز المشكلة واللحظة الراهنة، لتدخلنا في تحول حضاري عميق ومصيري. ونتحول من البحث في سراديب المتفجرات والاسلحة المكتشفة الى سراديب العقل الاسلامي المأزوم!

*كاتب سعودي

[email protected]