مسؤوليات ما قبل الدولة العراقية

TT

بتشكيل الإدارة الأميركية «مجلس الحكم» في العراق، تكون قد رفعت عن كاهلها بعضاً من وصمة دوام الاحتلال المرفوض من قبل العراقيين، ونقلت ضغوطه إلى سياسييهم، الذين إذا ما أحسنوا استخدام المساحة المقننة من السلطات بعقل وطني توحيدي، فإنهم سيتمكنون من توسيع تلك المساحة وتضييق مساحة الاحتلال تدريجياً وبشكل سلس ومبرمج حتى تحقيق السيادة الكاملة والاستقلال.

المهمة الأساسية حالياً، تقع على الجانب العراقي وليس الأميركي، مثلما كانت كذلك قبل سقوط نظام صدام حسين، حين عجزت الفئات السياسية المعارضة الخارجية والداخلية عن تحقيق مشروع التغيير. ولكي لا تفسر الانتقادات الموجهة لمجلس الحكم العراقي، بغير مقاصدها الوطنية النبيلة، أو يوضع ظرفه الذي نشأ بموجبه في غير موقعه، لا ينبغي التوقف كثيراً عند طبيعة هذا التشكيل والمؤثرات المحلية والاقليمية، غير الأميركية، التي فرضته بالصورة المعروفة للجميع.

وقد سبق لي أن عبرت، من خلال صفحات جريدة «الشرق الأوسط»، عن ضرورة توسيع دائرة المشاركة في القيادة الموجهة للعمل السياسي العراقي، وكذلك عن المخاوف مما سيتركه ذلك المنهج الضيق من آثار على صياغة مستقبل العراق السياسي.

لقد اختارت القوى السياسية الممثلة للمجلس الانفراد ومن دون مشروعية وطنية في تحمل مسؤوليات امتحان تاريخي عسير قد تفقد خلاله القوى الحريصة على سمعتها وتراثها الوطني وخاصة (العربية) مستقبلها السياسي، إذا ما تم التفريط أو التهاون في المحافظة والحرص على مصالح العراق الرئيسية، والتخلف عن تنفيذ برنامج عودة الأمن والخدمات. وقد تقع في هذا المحذور إذا ما هيمنت على بعضها جاذبية (نصف السلطة السهلة) مما سينعكس ذلك على مجمل الوضع السياسي العراقي ويقوده إلى تعقيدات جديدة.

ولئن كانت طبيعة تشكيل المجلس قد وضعته أمام تساؤلات محرجة، تطال قدراته وإمكانياته في التعبير عن حاجات العراقيين، فقد أصبح المجلس حالة عراقية لها دورها في تحريك الواقع السياسي لما قبل الدولة العراقية، تفترض التعامل الوطني المحلي معها بلغة الحوار السياسي، ووفق متطلبات العمل الوطني ومصالح العراق العليا، دون انتظار الحصول على ولاء مطلق من جانب القوى الوطنية والشعب العراقي. وفي ضوء ذلك، يتحمل مجلس الحكم والقوى السياسية العراقية ورموزها الوطنية خارجه، مسؤوليات استعادة الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية لما قبل الدولة العراقية وفق الاولويات التالية:

ـ إذا كان الأميركان قد قدموا للعراقيين بيدهم اليمنى مكرمة التخلص من دكتاتورية صدام، وهم مشكورون على ذلك، فقد هدمّوا باليسرى دولة العراق التي امتدت لأكثر من ثلاثة آلاف عام. وقد لا يقصد القادة الاميركيون ذلك، غير ان ظروف الاجتياح وتعقيداته المحلية والاقليمية ساعدت على هذه النتيجة المرة. ومع ذلك فأبناؤه قادرون على البدء بهذا الطريق بعد أن تخلصوا من دكتاتورية صدام، وحيث باتت الحرية القاعدة الفريدة التي تنفتح أمامها فرص التنمية والتقدم. ومسؤولية بناء الدولة العراقية ليست من واجبات مجلس الحكم الانتقالي، انما هي مسؤولية جميع القوى السياسية وهيئات المجتمع المدني والشعب العراقي، بمساعدة الولايات المتحدة والهيئات الدولية.

ـ إن الدولة العراقية بحاجة إلى إصلاح جذري، لكي تعود اليها قدسيتها ومهابتها كمرجعية وملاذ حقيقي للنظام السياسي والمجتمع. وتتعدد جوانب هذا الاصلاح السياسي والاقتصادي والثقافي وتترتب مستوياته وأولوياته بحسب حاجات المجتمع والوطن من دون المساس بعنصري وحدة العراق واستقلاله.

ـ العمل على بناء جيش عراقي وطني رصين يعيد للوطنية العراقية جذوتها الأولى. وبالعودة إلى القيم الأساسية التي نشأ وفقها الجيش العراقي لحماية سور الوطن والدفاع عن منجزاته. جيش يكون حامياً لدستور البلاد، يستنجد به الوطن.

ـ إن مسؤولية فترة بقاء الاحتلال لا تقع على القيادة السياسية الأميركية وحدها، بل وعلى العراقيين ايضا، وبالدرجة الأولى، لأن الرغبة بالبقاء لا تتملك الأميركان خصوصا في ظل مخاطر القتل اليومي الذي يتعرضون له ومضاعفاته.

ومن دون الدخول في تفسيرات واجتهادات «مشروعية المقاومة المسلحة» من عدمها، وطبيعة دوافعها وأدواتها الحالية، أعتقد ان جدواها في الظروف الحالي عديمة، وهي تؤدي إلى استمرار تراجيديا الدم مفتوحة على شعب عظيم لا يستحق كل هذه الآلام. إذ يمكن للخيار السياسي أن يلعب دوراً مهماً في تقصير زمن الاحتلال العسكري الشامل للعراق، وبشكل خاص إذا ما تمكن (مجلس الحكم) من إنجاز المهمات الوطنية الانتقالية.

ـ إن إعداد وثيقة الدستور العراقي ليست مسألة سياسية استهلاكية عابرة، أو إنجازا يقدمه مجلس الحكم للجمهور اليوم، في ظروف بالغة التعقيد، فهذه الوثيقة التاريخية لا يحدد مبادئها القانونيون العراقيون، وإنما توجهات القيادات السياسية، خصوصاً أن تشكيلة قيادة مجلس الحكم الحالية، لا تؤشر على قدرته على إنجاز هذا المشروع الوطني التاريخي، وما يخشاه الوطنيون العراقيون هو تمرير هذه الوثيقة في غفلة عن العقل السياسي العراقي المستقر، وفي لجة العاطفة الخارجة من نفق الدكتاتورية. وأؤكد هنا مرة أخرى ما عرضته من اجتهاد يقول، إن من الممكن إنجاز وثيقة دستور مؤقت يمهد لقيام حكومة حرة منتخبة، تعد مع قيادات الأحزاب المجازة ومؤسسات المجتمع المدني، وثيقة الدستور الدائم، ويعرض على مؤتمر وطني دستوري، أو تأجيل هذه المهمة إلى المرحلة الأخيرة من متطلبات الاعداد الديمقراطي الحالية، بعد أن تتوفر للجميع سبل الاستقرار على غير مستوى.

ـ إذا كان العراقيون بحاجة إلى حملة وطنية للتأهيل النفسي للتخلص من ثقافة الحكم الشمولي والعنف والخوف وجميع مفرداتها، بترسيخ ثقافة التسامح والحوار والتعددية السياسية والثقافية، فإن القوى السياسية هي بحاجة كذلك، إلى عملية تجديد واسعة، وتأهيل جذرية للتخلص من الثقافة الشمولية ونزعاتها في الهيمنة الأبوية الفردية، والعنف وعدم قبول الرأي الآخر.

ـ من المبكر الدخول بآليات الدولة المستقلة قبل حلولها، وقيام حكومة ديمقراطية حرة ، مثل العلاقات الاقليمية والدولية والتمثيل الديبلوماسي العراقي في وقت تمنع قيادة الاحتلال منح الحصانة الديبلوماسية للبعثات العربية والاجنبية العاملة في البلاد. في ظل الواقع الحالي لا توجد سياسة خارجية وفق معايير الشرعية الدولية. وقد يحاول بعض أعضاء المجلس إضفاء قدر من الشرعية على فعاليتهم في الخارج، لكن ذلك يبقى في حدود العلاقات العامة. وتظهر حالياً، اجتهادات ورغبات من بعض السياسيين العراقيين، إلى جانب بعض القيادات العربية تسعى الى وضع العراق في مكانته الطبيعية في العالم العربي، أو دفعه نحو قوى إقليمية، وفق دوافع ومصالح متشابكة عديدة. ويتسارع البعض لعقد الصفقات التجارية الكبرى. ولا نعتقد بأن التوجهات المستقبلية لحكومة العراق الجديد في ظل ظروف الهيمنة الأميركية، ستحمل في أجندتها مشاريع للقومية التي سقطت على بوابات بغداد في التاسع من أبريل، بل نتوقع تكريسا للعلاقات عابرة القومية، التي تقوم على أساس تبادل المصالح، انسجاماً مع متطلبات الاستراتيجية الأميركية في العالم العربي بعد الحادي عشر من سبتمبر، الساعية إلى قيام نظام جديد في الشرق الأوسط بلا نزعات آيديولوجية قومية أو دينية، بل بسيادة النظام الحر بسوقه العالمي المفتوح.

*سفير عراقي سابق