بدائل مجلس العراق «الانتقالي»

TT

أمر طبيعي ان تكون هناك تحفظات على «مجلس الحكم الانتقالي» العراقي وان يوصف بأنه غير شرعي وغير دستوري ولا يمثل ارادة العراقيين، فهذا المجلس الاستثنائي جرى تشكيله في ظروف استثنائية وهو جاء بقرار من حاكم أجنبي وكنتيجة لاحتلال، مهما جرى تزيينه ووضع المساحيق على وجهه، فإنه يبقى احتلالا كريها ولا بد من وضع حد له وفي اقرب وقت ممكن.

لكن، ومع الاعتراف بهذه الحقيقة، فإنه لا بد من ان نتساءل عن البديل، ما دام ان الدولة العراقية كلها بكل اجهزتها اختفت وذابت، كذوبان الملح في الماء، في غضون دقائق بعد وصول طلائع القوات الأميركية الغازية الى بغداد. ما هو البديل لهذه الوضعية «المرفوضة»..؟!

هناك من يرى انه بالامكان ان يكون البديل حاكما عسكريا من كبار جنرالات الجيش العراقي الذين انشقوا على صدام حسين في أوقات سابقة، وهناك من يفضل لو ان هذا المجلس كان مجلسا عسكريا له أنياب طويلة وحادة ويستطيع فرض هيبته على كل القوى الموجودة على ارض العراق بما في ذلك فلول النظام البائد، وهناك من يرفض «المجلس الانتقالي» من حيث المبدأ لكنه لا يطرح بديلا سوى الفراغ الذي إذا طال أمده فإنه سيؤدي الى حرب أهلية لا احد يستطيع التكهن بحجم نتائجها المدمرة.

وهنا وبما ان المرفوض هو الارادة الأجنبية فما هو الفرق يا ترى بين «المجلس الانتقالي» والمجلس العسكري المقترح والجنرال المخلص ما دام ان الحاكم المدني الأميركي بول بريمر هو مرجعية الجميع وهو صاحب القرار بالنسبة لكل هذه الاشكال والهيئات التي يجري الحديث عنها.

حتى الآن تشير كل المعطيات الى انه من المستبعد ان تتسلم الأمم المتحدة زمام الأمور في العراق وان تحل قوات دولية محل القوات الأميركية المحتلة وان يحل حاكم دولي يتم الاتفاق عليه محل الحاكم المدني الأميركي المفروض على العراقيين فرضا بقوة الاحتلال والبنادق الأميركية.

لا مشكلة على الاطلاق على مستوى الأفراد والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في رفض «المجلس الانتقالي» وعدم الاعتراف به أو التعامل معه، لكن هناك مشكلة كبيرة بالنسبة للدول، وبخاصة الدول العربية، إذ عندما يقال ان هذا المجلس غير شرعي ولا يمثل ارادة العراقيين فإنه لم يعد أمام الدول التي هذه هي قناعتها إلا الاحتمالات التالية:

أولا، إما شطب العراق نهائيا من «أجندة» علاقاتها وتعاملاتها الدولية، والانتظار الى ان تنسحب القوات المحتلة وتجري انتخابات حرة وديموقراطية تتمخض عنها قيادة شرعية تمثل ارادة الشعب العراقي كله بكل قواه الاجتماعية والمذهبية والعراقية..

ثانيا، وإما اعتبار ان النظام السابق، نظام صدام حسين، لا يزال هو الشرعي وهذا يقتضي ايجاد موطئ قدم، في العاصمة التي ترى هذا الرأي، لحكومة منفى «بعثية»، والاعتراف بالسفارات العراقية على انها سفارات هذه الحكومة والتعامل مع سفرائها على هذا الأساس، وفتح الحدود والمطارات امام كل رمز من الرموز السابقة وبحيث يتم تجميع القوى لشن حرب تحرير خارجية وداخلية لدحر الاحتلال واستعادة السلطة التي انهارت في التاسع من ابريل (نيسان) الماضي.

ثالثا، اعتبار ان المقاومة التي يجري الحديث عنها، سواء كانت من فلول النظام السابق أو من قوى اسلامية ذات صلة بتنظيم «القاعدة» بقيادة اسامة بن لادن، هي الممثل «الشرعي والوحيد» للشعب العراقي وفتح مكاتب لها في العواصم التي ترى هذا الرأي ودعمها بمستوى الدعم نفسه الذي جرى توفيره ذات يوم اولا لمنظمة التحرير والمقاومة الفلسطينية وثانيا لـ «المجاهدين» الافغان عندما كانت هناك حاجة اليهم لدحر الاحتلال الشيوعي السوفياتي عن هذه الدولة الاسلامية.

هذه هي البدائل، الممكنة وغير الممكنة، لـ «المجلس الانتقالي» والأمر الواقع القائم في العراق وما عدا ذلك فإنه مجرد تملق لشارع عربي محبط قد ينفجر في أية لحظة أو مجرد مشاغبة لا هدف لها إلا تسويق الذات على الأميركيين الذين، كما يبدو، ما عادوا يتبعون سياسة اعتماد وكلاء اقليميين لمصالحهم في هذه المنطقة، المنطقة العربية، وفي غيرها من مناطق العالم.

لا شك في ان هذا المجلس لم ينتخبه العراقيون وانه احدى نتائج الاحتلال، لكن ان يقال انه لا يمثل غالبية العراقيين فإن هذه مسألة قابلة للنقاش. والسؤال الذي يمكن طرحه في هذا الصدد هو: وهل ان نظام صدام حسين يا ترى يعبر عن ارادة الشعب العراقي ويمثل ارادة هذا الشعب..؟!

إذا صدقنا ان آخر انتخابات أجريت في العراق كانت انتخابات حرة ونزيهة ولو بالحدود الدنيا، فإنه علينا ان نسلم بأن صدام حسين برقم المائة في المائة الذي اعطته إليه صناديق الاقتراع في هذه الانتخابات هو الذي يمثل الشعب العراقي وهو الذي يمثل ارادة العراقيين بما في ذلك حتى نزلاء المقابر الجماعية وحتى الذين شردهم البطش في كل ارجاء المعمورة.

لقد كان نظام صدام، مثله مثل كل انظمة الانقلابات العسكرية، نظاما فرض نفسه على الشعب العراقي بالقوة ولقد بقي مفروضا بالقوة، مثله مثل كل انظمة الانقلابات العسكرية التي لا تزال على قيد الحياة، رغم كل مسرحيات الاستفتاء والانتخابات الصورية والشكلية.

إن الامور بالنسبة لهذه القضايا نسبية ولذلك وإذا كان لا بد من المقارنة بين «المجلس الانتقالي» ونظام صدام حسين بالنسبة لتمثيل العراقيين والتعبير عن ارادتهم، فإنه من المؤكد اذا استبعدنا المناكفة والتَّطَهُّرِيَة الكاذبة ان هذا المجلس اكثر تمثيلا وأكثر تعبيرا عن الارادة العراقية الحرة من كل الانظمة التي تلاحقت في العراق منذ انقلاب عبد الكريم قاسم المشؤوم في عام 1958.

يضم هذا المجلس كل القوى الكردية العراقية المنتخبة والمعبرة تعبيرا حقيقيا عن أكراد شمال العراق، كما انه يضم معظم القوى الشعبية التي لها امتدادات فعلية غير مفروضة بالقوة داخل الشعب العراقي، وهذا يعني انه رغم كل ما يقال فيه وحوله يمثل غالبية شرائح المجتمع العراقي ويعني ايضا ان البديل عنه في الظرف الراهن قبل وضع دستور للبلاد واجراء انتخابات يتوفر لها ولو الحد الأدنى من الحرية والشفافية هو الفراغ الذي سيكون حتما بوابة الحرب الأهلية المدمرة.

ليس أمام الدول العربية سوى إما ادارة الظهر للعراق وكل شؤونه وشجونه أو التعامل مع الواقع والعمل على الاسراع في تغيير هذا الواقع وعلى أساس ان يكون البديل لهذا الواقع هو حكومة وطنية منتخبة تمثل الشعب العراقي بغالبيته وبغالبية قواه السياسية والمذهبية والعرقية.