صيف حاسم في المصير الفلسطيني

TT

هناك اسباب كثيرة تدفع للاعتقاد بأن الاسابيع القادمة ستكون حاسمة، وعلى الاقل، مُقولبة للمصير الفلسطيني في المستقبل القريب. من تلك الاسباب: ان الوضع الحالي يستتب فيه الامن النسبي المتبادل بفضل هدنة مؤقته وغير مضمونة. كل الجهود والآمال المحلية والدولية المستثمرة في رئيس الوزراء الفلسطيني قد تتبخر اذا استقال ابو مازن، وهذا غير مستبعد. رئيس الوزراء الاسرائيلي لم يحسم امره ويثبت عزمه بالالتزام بخارطة الطريق حسب مفهوم اللجنة الرباعية التي رسمت الخارطة. الوضع الدولي يؤهل القوى الُمؤثرة لسحب ايديها من القضية اذا عادت للتفجر، وبعض القوى الاقليمية تحتاج لمُشاغلة اميركا واسرائيل في اكثر من موقع. وهناك بالطبع اسباب اخرى لا تدفع للتفاؤل، مثل عدم وجود جبهة سلام اسرائيلية قوية تضغط على شارون، واقتراب موسم الانتخابات الرئاسية الاميركية، ومهارة اسرائيل الاعلامية في التأثير على الرأي العام وعلى القرار الاميركي وغير ذلك.

العامل الاخطر على مستقبل القضية والشعب والارض الفلسطينية هو ان يستقيل ابو مازن قريباً، قبل ان يؤمن الوضع عبر حل سلمي، او على الاقل عبر تجديد الشرعية بانتخابات برلمانية. ذهاب ابو مازن الآن لن يعيد عرفات الى دائرة الاعتراف الاميركي والاسرائيلي، وسيفتح المجال امام فوضى سيطرة الحركات القتالية، وبالتالي التمهيد للمزيد من التدمير المتبادل والقضاء على بقية بنية المجتمع الفلسطيني. كان، وما يزال من الافضل لو ان رئيس الوزراء الفلسطيني قام، كأول خطوة له، بانتخابات نيابية تضمن وجود قيادات منتخبة ديمقراطياً لخمس سنوات قادمة، ولكن للآن لا نجد من يهتم بهذه القصة لأن الجميع، على ما يبدو، يريدون الهيمنة بأساليبهم الخاصة.

اسرائيل وواشنطن سترفضان التعامل مع أي قيادة مستقبلية، غير مناسبة، بحجة انها ليست قيادة منتخبة شرعياً. وذلك بعد ان انتهت مدة صلاحية القيادات المنتخبة الحالية منذ زمن طويل. بمعنى آخر، فالشرعية الديمقراطية الفلسطينية ـ الآن ـ نابعة من اعتراف اسرائيل وواشنطن بمن يريدونه هم وليس بمن انتخبهم الشعب الفلسطيني، وبالتالي فمستقبل القيادة، وفي ظل استمرار غياب الانتخابات، سيبقى مقرراً من غير الفلسطينيين. لكن هل يستقيل ابو مازن الُمؤيد فلسطينياً وعربياً واسرائيلياً واميركياً وعالمياً؟ الاحتمال وارد جداً، وذلك بناء على طبيعة وتجربة الرجل، ومن واقع الظروف المحيطة به. المهم هنا ان ابو مازن هو الوحيد الذي يحظى ـ للآن ـ باجماع الجميع عليه، وأي بديل له، غير منتخب، لن يفوز حتماً بقبول الفلسطينيين والاسرائيليين معاً.

قد تكون واشنطن، التي استقبلت في بحر اسبوع محمود عباس واريل شارون، انجزت صفقة لدعم تطبيق «خارطة الطريق»، وبالتالي تمهيد النجاح لأبو مازن في الاوساط الفلسطينية، والتأكيد على ان ما يتم ليس لعباً اسرائيلياً اعلامياً، وان هناك بالفعل استعداداً اسرائيلياً لتنفيذ الاتفاقيات والشروط. بدون ظهور دلائل وأفعال جلية على نوايا اسرائيل للتطبيق، فإن طرق ابو مازن ستقوده إما للاقتتال، الذي يرفضه ولن يقدم عليه، وإما لطريق الاستقالة، وهذا يتطابق مع طبيعته وتجربته.

لقد ثبت محمود عباس موقعه فلسطينياً للآن، عبر سلاح التهديد بالاستقالة لأنه لا يريد ان يهدر وقته وجهده في اقناع الإخوة والرفاق بصدق نواياه ووطنيته وصحة طريقه. ومن جهة اخرى فهو يرفض ان يتحول الى اداة ضد المعارضة الفلسطينية او توجهات الشعب، وعندما يتأكد ان شارون وبوش لا ينفذان الشروط والبنود والوعود ولا يطبقان خارطة الطريق، فلن يمكث في موقعه طويلاً يطالب شعبه بالصبر بينما الاستيطان ينمو والجدار يتمدد والأسرى يزداد عددهم والبؤس يطبق على الجميع. وهذا هو الفارق بين أبو مازن وغيره، فهو يريد رؤية حركة في أي عمل يتحمل مسؤوليته، والا فأنه يترك الساحة غير نادم على أية عواقب. محمود عباس يبدو للآن كوسيط بين التوجهات الفلسطينية والاسرائيلية، وسينسحب بسرعة اذا فشلت الوساطة بغض النظر عن الذي افشلها.

ما قدمه شارون للآن في مقابل الهدنة ومن اجل تطبيق «خارطة الطريق»، لم يقنع محمود عباس، الذي طرح افكارة على القيادات الاميركية. وشعارات شارون في واشنطن غير منطقية ولا تبشر بالخير. بالنسبة للفلسطينيين، فإن الجدار لا يحقق الامن لإسرائيل كما تدعي، ولكنه يتحقق عبر الهدنة ويستمر بالسلام. واذا كان لا بد من جدار فليكن على خط حدود عام 1967 وليس بضم الارض وفرض الامر الواقع. وفي قضية المعتقلين يريد الفلسطينيون خروج ستة آلاف معتقل، او على الاقل خروج كل المعتقلين القدامى، او خروج كل المعتقلين الاداريين غير المحكوم عليهم، او بالطبع خروج كل من لم يقتل اسرائيلياً (غير الملطخة ايديهم بالدماء حسب الدعاية الاسرائيلية) وهذا سيعني خروج اكثر من تسعين بالمائة من الاسرى الستة آلاف.

وهناك بالطبع البنود الواجب تطبيقها في الطرف الاسرائيلي، مثل ازالة المستوطنات فعلياً وليس كمسرحية اعلامية بإزالة مستوطنة وبناء اثنتين، وانهاء التحريض في المدارس الدينية، ومعاقبة الجنود الذين يمارسون العنف على الحواجز، وبالطبع اعلان الاستعداد الاسرائيلي بعدم التعرض للبنية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية الفلسطينية، أي الغاء العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين طالما ان غالبيتهم يؤمنون بأسلوب التفاوض من اجل حل سلمي.

سنرى خلال ايام، ماذا سيفعل شارون بعد عودته من واشنطن، ففي يده الآن بالفعل مفاتيح الهدوء والسلام، وادوات العودة للقتال والعنف المتبادل، وهو يعرف ذلك تماماً. شارون، كما اتضح للآن، لا يريد تطبيق «خارطة الطريق»، ويرى ان هدفه الاساسي هو كسب الادارة الاميركية الى جانب رؤاه، وليس تحقيق السلام واقامة دولة فلسطينية مسالمة بجانب اسرائيل وتحظى برضى اميركا والعالم. فإذا أقنع الادارة، عبر حيله الاعلامية والشعارات الجوفاء وبالاساليب الاخرى، ولم يطبق خطوات واضحة وسريعة تجاه السلام فإن الموقف سينفجر. اما اذا نجحت الادارة في الضغط على شارون ودفعه للطريق السليم، فسنرى أبو مازن يسعى لتمديد الهدنة، وتطبيق المطلوب منه عمله لانجاز «خارطة الطريق».

الوضع الفلسطيني الآن كالهشيم في الصيف الجاف الحار، الجمهور على اعصابه سياسيا،ً وبأمعاء خاوية معاشياً، وتم منح محمود عباس فرصة محددة زمنيا،ً اذ يرى الكثير من الفلسطينيين ان اسرائيل لا تفهم سوى لغة العمليات الانتحارية حتى تنسحب وتسالم، كما ان المنظمات القتالية اقنعت بالكاد لتقبل الهدنة. هكذا من السهل على شارون ان ينسف الوضع اذا رتب شؤونه مع واشنطن، وحينها سيغادر محمود عباس الموقع، ومن ثم سنكون قد عايشنا آخر ايام المرحلة العلمانية الفلسطينية التي ولدت مع منظمة التحرير الفلسطينية، وتمدد الاصولية الدينية كوريث، وبالتالي تعقيد القضية الفلسطينية.

هناك بالطبع فرصة ضئيلة (بعد استقالة ابو مازن) ان تتقوى حركة المقاومة الشعبية السلمية تماماً ضد الاحتلال، ومثل هذه المقاومة لها فرصة هائلة في انتصار اسرع، ولكن كل المؤشرات تؤكد ان التيار الاصولي هو الذي سيهيمن على الساحة الفلسطينية. بل ان حركة فتح ستكون هي الاخرى مسايره للأسلوب الاصولي بعد ان انصهرت حركات اليسار والقومية في الساحة الفلسطينية منذ زمن في الاطار الاصولي المقاوم عسكرياً.

هذا السيناريو هو عسل على قلب شارون ويسهل مهمته في كسب اميركا والغرب الى جانب اسرائيل ضد الاصوليين ظاهرياً ولتدمير اسس القضية الفلسطينية عملياً، والأحلى لشارون هو اقتتال الفلسطينيين ذاتياً في ظل وريث ابو مازن غير المنتخب.