هل فتحت معركة الرئاسات في لبنان؟

TT

ايا كانت نتيجة التحقيق العدلي في «حادثة بتغرين»، وحكم القضاء فيها وفي المسؤولين عنها، فإن الاوساط السياسية، بل الشعبية في لبنان، مجمعة على ان اسبابها وابعادها سياسية ـ حزبية ـ انتخابية، بل رئاسية. ففي منطقة «المتن»، حيث تقع بلدة بتغرين، سجلت المعارضة اللبنانية اهم انتصار انتخابي على احد ابرز رموز الحكم القائم منذ انتهاء الحرب، النائب والوزير السابق ميشال المر، بانجاحها شقيقه غبريال المر المعارض له في تلك الانتخابات. ولكن ميشال المر و«الدولة» (؟)، نجحا قضائيا و«دستوريا» في ابطال نيابة الشقيق المعارض المعلن فوزه رسميا، والذي مارس نيابته بحضور جلسات المجلس، بالاضافة الى اصدار حكم قضائي باغلاق محطته التلفزيونية اغلاقا نهائيا.

لقد حرصت المعارضة المتنية على ان لا تزج باسم رئيس الجمهورية في هذه المعركة الحزبية و«الاخوية»، لكن المشكلة هي في ان وزير الداخلية في الحكومة الحالية والحكومة السابقة، هو نجل النائب ميشال المر. وصهر رئيس الجمهورية، وان نجل رئيس الجمهورية فاز بالنيابة عن المتن على لائحة ميشال المر ومن هنا، وبالرغم من استنكار رئيس الجمهورية لحادثة ترهيب النواب المعارضين، خاصة النائب المعارض نسيب لحود (ابن ابن عم رئيس الجمهورية)، ومن «انتفاضة» وزير الداخلية واصدار اوامره بفتح تحقيق في الحادث ومعاقبة المسؤولين، فإن في لبنان اجماعا على ان ما حصل في بلدة بتغرين مقدمة للمعركة الانتخابية النيابية القادمة، وحلقة جديدة من الحرب الباردة بين المعارضة و«الدولة».

ان التعابير السياسية في لبنان تعني، احيانا، غير ما تعنيه في قاموس السياسة العام، فعبارة «الدولة» عالميا ودستوريا، تعني الوظائف العامة مجتمعة ابتداء برئيس الجمهورية وانتهاء بالمخاتير والشرطيين، اما في لبنان، خصوصا في حكم ما بعد الحرب، فانها قد تعني رئيس الجمهورية والاجهزة او قد تعني رئيس الحكومة ومجلس الوزراء، اللذين انتقلت السلطة التنفيذية اليهما بحكم دستور الطائف،

كما قد تعني، في اذهان الناس او في الواقع، مجلس النواب الذي يختار رئيس الحكومة او الجيش او الادارات العامة او اجهزة الامن، لا سيما الامن العام والمخابرات العسكرية، التي تنفذ القوانين وتطبق القرارات «على الارض». اما القضاء، وبالرغم من «حرص» الجميع على استقلاله والقبول بمرجعيته، فإن الرأي العام اللبناني لا يفصله ذهنيا عن الدولة.

والمشكلة الحقيقية في لبنان اليوم هي في ان «الدولة» ليست واحدة ولا اركانها متضامنون وموحدو النظرة الى السياسة اللبنانية العليا والى الاستحقاقات الدستورية القادمة، الرئاسية والنيابية. ولولا حرص «الدولة الراعية»، سوريا، على جمع صفوف الحاكمين وحل خلافاتهم، لكان المشهد السياسي في لبنان، مختلفا جدا عما هو عليه اليوم.

ليس سرا ان رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ليسا «على موجة واحدة» بالنسبة للسياسة الاقتصادية، وان هذا التباين يهدد خطة «باريس 2» وربما الاقتصاد اللبناني برمته، كما لم يعد بسر تباين موقفهما من الانتخابات الرئاسية القادمة، وعندما يقرأ الناس تصريحات رئيس المجلس النيابي والنائب وليد جنبلاط، المنتقدة بعنف سياسة الحكومة او بعض تصرفات «الاجهزة» ـ وكلاهما ممثل في الحكومة بعدة وزراء ـ لا يسعه سوى التساؤل عن امكانية او صوابية او جدوى استمرارية «الحكم» اللبناني الراهن عدة سنوات اخرى؟ وعن الشخصيات والرموز السياسية او الادارية الحاكمة، التي يجب ان تبقى او يجب ان تتغير؟ واين يجب ان يتم التغيير: في رئاسة الجمهورية؟ ام في رئاسة الحكومة؟ ام في الوزراء؟ ام في الاكثرية النيابية؟ ام في المراكز الادارية والقضائية الرئيسية؟

قد تكون حادثة بتغرين، في نظر البعض، صغيرة وأصغر من ان يربط بينها وبين الاستحقاقات الرئاسية او النيابية القادمة، او بالاستحقاقات الاقليمية الكبرى، وفي طليعتها خارطة الطريق والحرب الاميركية على الارهاب والاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط بعد احتلال العراق، وعلى الاخص موقف سوريا من الاوضاع اللبنانية، على ضوء تطور علاقاتها بالولايات المتحدة، وهي علاقات أقرب الى التوتر والحذر منها الى الود والتفاهم. وفيما يرى بعض المعارضين في الحالة الاقليمية والدولية الراهنة فرصة لتحرر لبنان من الوصاية السورية عليه، يرى بعض الحاكمين في لبنان ـ وليس كلهم ـ ان استعادة لبنان لكامل استقلاله وتغيير «الطقم الحاكم» فيه منذ انتهاء الحرب، برضى سوريا وموافقتها، طريق للاصلاح الداخلي في لبنان وهو مطلب مجمع عليه ـ ولتركيز العلاقات اللبنانية ـ السورية على اسس اوضح واعمق وافضل للطرفين، من الاسس المعمول بها اليوم، والتي تعطي دمشق الحق المطلق في اختيار رئيس الجمهورية والحكومة والنواب في لبنان.

قد تكون حادثة بتغرين عنوانا لسياسة سوف يتبعها «الحاكمون» او «الدولة»، لتكدير المعارضين وكسب معركة الرئاسة والانتخابات النيابية القادمة. وقد تكون ردة الفعل السياسية المستنكرة والشاجبة لهذا الاسلوب السياسي الرجعي واللاديموقراطي في السياسة، بداية تحول هام في الحياة الوطنية والسياسية في لبنان. والكلمة، ابتداء من اليوم، هي لرئيس الجمهورية ولرئيس الحكومة ولبعض الزعماء السياسيين الحاكمين والمعارضين، ولسوريا في نهاية المطاف، او بالاحرى لنوعية العلاقات السورية ـ الاميركية، والاوضاع الراهنة في المنطقة، عند الاستحقاقات الرئاسية والنيابية اللبنانية.