واشنطن وفن صناعة الأعداء

TT

حين تأخذ مقاومة الوجود الامريكي في العراق منحى خطيرا بدخولها مرحلة تنسيق على الارض بين المجموعات المهاجمة، فان مصاعب حقيقية تواجه القوات الامريكية، ومخاوف من تبلور قيادة ميدانية وهيكل تنظيمي للمقاومة التي تتغذى من غياب الاجراءات والقرارات الصائبة لحل المشكلات الناجمة عن سقوط نظام صدام حسين وفي مقدمتها تشكيل حكومة مؤقتة واعادة الامن والبدء بالاعمار.

وبسبب عدم وضوح الرؤية لدى الادارة الامريكية، اضطرت الى تعديل خططها السياسية اربع مرات منذ شهر شباط الماضي، من تشكيل حكومة عسكرية، الى انشاء سلطه انتقالية من دون تسميتها حكومة، ثم الاتجاه لتشكيل حكومة انتقالية واخيرا العودة الى خيار اقامة ادارة عراقية وتعيين مستشارين عراقيين للحاكم المدني الامريكي بول بريمر، بالترافق مع الرغبة في الاعتماد على مجموعة السبعة التي تضم قوى المعارضة الرئيسية السابقة في ادارة الحكم، ثم التخلي السريع عنها باتجاه تقليص دورها السياسي لصالح توسيع الاتصالات لتشمل قوى عراقية اخرى، في مقدمتها رجال الدين ورؤساء العشائر وشخصيات سياسية مستقلة.

جاء هذا التخبط ليؤكد خطأ الافتراضات التي بنت عليها الادارة الامريكية سياساتها لمرحلة ما بعد الحرب، والتي ساهم في بلورتها اعتماد هذه الادارة على سياسيين وقانونيين واعلاميين وامنيين عراقيين لعبوا دور المستشارين لا بسبب خبراتهم وكفاءاتهم، بل بسبب مواقفهم السياسية المؤيدة للحرب وللطروحات الامريكية. لذلك لم يقدموا افكارا وتصورات ومقترحات تخدم العراقيين، بقدر ما كانوا يحاولون التناغم مع تطلعات واشنطن، مما ساهم في اندلاع الفوضى الحاصلة في جميع مرافق الحياة العراقية.

العراقيون الذين سعدوا بسقوط النظام، اصيبوا بخيبة امل، وبدأت آمالهم تتبخر مع ارتفاع درجة حرارة صيف العراق القائظ. فالامريكيون الذين احتلوا العاصمة خلال ساعتين، لم يدركوا ان سقوطها السريع هذا سيبلور مشكلة خطيرة، لان اعضاء وانصار النظام وافراد تشكيلاته النظامية وشبه العسكرية، كانوا قد تواروا مع اسلحتهم من دون خسائر كبيرة، في خطة وضعت سلفا لالتقاط الانفاس قبل تجميع الصفوف من جديد. وهم يسعون الآن للعودة الى السلطة من ثلاثة اتجاهات تعمل معا:

ـ تحويل المعركة ضد الامريكيين الى حرب استنزاف من خلال ضربات يومية متفرقة تستهدف جنودهم والياتهم العسكرية.

ـ تصفية العناصر العراقية التي تتعاون مع الادارة المدنية الامريكية في جهودها لاعمار ما هدمته الحرب واعادة الخدمات العامة، لفرض عزلة خانقة حولها تفشل مساعيها.

ـ تخريب المرافق العامة لخلق حالة من التذمر بين المواطنين المتطلعين لاوضاع افضل، والقاء اللوم على الامريكيين وتعبئتهم ضد استمرار الوجود الامريكي.

كان المؤمل ان يفشل انصار النظام في تحقيق اي من هذه الاهداف الثلاثة، نتيجة للموقف الشعبي الرافض لهم وللسلطة التي كانوا يمثلونها، لكن الاجراءات والقرارات التي اتخذتها الادارة الامريكية ساعدتهم على تقليص حجم الرفض الشعبي وعلى خلق حالة عامة من عدم الرضى يستطيعون من خلالها التحرك نحو تقريب اهدافهم.

في هذا السياق، حاءت الاجراءات والقرارات المرتجلة، وغير المدروسة للادارة المدنية، وفي غياب حضور عراقي حقيقي لتجسد جهلا بواقع الحال العراقي ومتطلباته من خلال ترك قيادات الحزب والجيش والتشكيلات المسلحة غير النظامية والاجهزة القمعية حرة طليقة. وفي المقابل، حل وزارتي الدفاع والاعلام وتشريد نصف مليون من منتسبيهما، والتلكؤ في دفع مرتبات الموظفين في دولة يسيرها القطاع العام، وعدم تأمين الحماية الكافية للمؤسسات الخدمية التي تشكل عصب الحياة العراقية، والعجز عن تحقيق امن الناس.

وبهذا تكون ادارة بريمر نجحت في خلق استياء شعبي واسع ترافق مع مخاوف شعبية حقيقية من احتمال عودة الحاكم السابق، وهي مخاوف اخذ يغذيها تصاعد تحركات انصار النظام، الذين تمكنوا من اعادة الاتصالات فيما بينهم وتنسيق عملياتهم المسلحة. ومما يزيد من خطورة الامر، اعلان الادارة الامريكية مؤخرا، بان اعادة الخدمات والاعمار في العراق ستستغرق ثلاث سنوات كاملة، وهي فترة مرشحة لان تشهد انتكاسات جديدة على هذا الصعيد.

لقد حان الوقت لان يدرك التحالف بأن الوقت لا يسير لصالحه في العراق، وان هناك مخاطر جديدة قد تتزايد في حال تواصل العجز عن خلق اوضاع سياسية ومعيشية وامنية مستقرة في العراق. فابناء الجنوب الذين اظهروا تعايشا سلميا مع التحالف، ورفضوا القيام بعمليات مسلحة ضده لحد الان، وعلماء الحوزة العلمية في النجف الاشرف، الذين لم يحرضوا ضد التحالف ايضا، لن يحتفظوا طويلا بسكوتهم على تردي الاوضاع العامة. ولذلك فقد تضطر الحوزة، وتحت قوة الضغط الشعبي الناقم، لاصدار فتوى ملزمة بعدم التعاون مع التحالف، مع امكانية تطور موقفها هذا الى الدعوة لمقاومة قواته بالسلاح، وهو امر بدأت ملامحه تلوح في الافق من خلال الفتوى التي اصدرها، قبل ايام، المرجع الديني الشيعي الاعلى اية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني، برفض تعيين سلطة الاحتلال لاعضاء مجلس كتابة الدستور العراقي.. وهو ما سيشكل القشة التي ستقصم ظهر البعير.

الادارتان الامريكيتان، السياسية في واشنطن والمدنية في العراق، مطالبتان بالاسراع في تعريق هذه الاوضاع، والاخذ بنصيحة السناتور الامريكي المعروف جوزيف بايدن، العائد قبل ايام من جولة في العراق، بضرورة العمل للتغلب على التصلب الايديولوجي لنائب الرئيس الامريكي ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، تجاه عدم السماح للاوروبيين وحلف شمال الاطلسي والدول العربية بالقدوم الى العراق، في اطار قوة حفظ سلام دولية، اقترح ان يكون عديدها 60 الف عسكري.

ولكي يتحقق النجاح المنشود لجهود الامريكيين لا بد من فعل حاسم لتعريق الاوضاع من خلال الاسراع باقامة حكومة وطنية تتولى شؤون العراقيين وتتمتع بالصلاحيات الكافية لاعادة الامن، وتوفير الخدمات العامه الضرورية وحل المشاكل المعيشية، وملاحقة مرتكبي الجرائم من اعضاء النظام السابق، بالاضافة الى اتخاذ خطوات عملية للمباشرة بكتابة دستور دائم، وتشريع قوانين جديدة تحمي حقوق العراقيين وبأيد عراقية متخصصة، بالترافق مع نشر عناصر عراقية من الجيش والشرطة في داخل المدن وخارجها ليحلوا تدريجيا محل الجنود الغرباء الذين يفترض تواريهم تدريجيا عن واجهة الاحداث، لكي يشعر العراقيون بانهم دخلوا فعلا مرحلة حكم انفسهم بانفسهم.

* كاتب عراقي ـ خبير اعلام سابق في منظمة اليونيسيف