كنوز ورموز

TT

جعل الله احكامنا مقبولة وخفيفة على قلوب الذين يقيسون اهمية الكتب بضخامتها وعدد صفحاتها فكاتب هذه السطور ومع عدم تحبيذه لاستخدام افعال التفضيل في غير اماكنها الضرورية يعتقد ان اهم ما صدر في مجال تجديد الفكر الديني في الفترة الاخيرة كتيب من 55 صفحة من القطع الصغير اسمه "ثورة في السنة النبوية" لمؤلفه غازي بن عبد الرحمن القصيبي. ففي هذا الكتاب ثروة حقيقية في المنهج البسيط الذي لا يحتاج مع اتقان قراءة النصوص الشرعية الا الى بعض الشجاعة التي يمتلكها المؤلف وتنقص كثيرين ممن يتنطعون للتأليف في هذا المجال الذي نظن من كثرة وقع الحافر على الحافر انه لم يبق فيه زيادة لمستزيد والعكس هو الصحيح فنحن امام كنز حقيقي كان متاحا بجواهره ورموزه على الدوام لكن قلة من اصحاب العمق والشجاعة عرفوا كيف يستفيدون ويفيدون من تلك الرموز والكنوز.

وقد احس المؤلف ان الاسم كبير وضخم على كتيب صغير الحجم فاحتاط منذ التمهيد للمنتقدين وقال بتواضع ـ نادرا ما يمارسه كتابة ـ ان مقالات هذا الكتاب مجرد دعوة للباحثين لاكتشاف كنوز السنة النبوية وليقوموا هم بجولة اوسع واعمق وسيجدون في تلك الكنوز ما يغنيهم عن استيراد الاصلاح من الخارج حين يتوقفون عن الانتقائية الانتهازية.

ويقوم منهج الكتاب المبسط على تقديم النص النبوي من مصادره المتفق عليها وبكافة الاشكال التي روي بها الحديث الشريف ثم يأتي تعليق المؤلف الذي لا يعتمد على تفسيرات من سبقوه انما يربط النص بوقائع الحياة الاجتماعية لعصرنا وعصرها ويثبت من دون عنعنات ان من كان قبلنا عرف في بعض المراحل كيف يستفيد من المصدر الثاني للتشريع في الاسلام واننا عجزنا عن ذلك لاسباب شتى.

ان اهمية كتيب غازي القصيبي تكمن بعد الشجاعة وبساطة المنهج في اختيار النصوص التي تلامس مشكلات الحياة اليومية ونصطدم بها كثيرا من دون ان نجد لها حلولا. ففي الكتيب احاديث نبوية تحض على نزاهة الممارسة السياسية للحاكم وعلى حماية وحرمة الحياة الشخصية وعلى تحريم تعذيب السجناء والمعتقلين وعلى جواز دخول المرأة في السلك العسكري وجواز تحديد النسل وكل هذه القضايا مثبتة باحاديث نبوية اهملنا العمل بها وقفزنا الى غيرها حين سادت العالم الاسلامي تلك الانتقائية الانتهازية وتلك القراءات المبتسرة والناقصة لمصادر التشريع.

لقد ركبت الصحابية الجليلة ام حرام بنت ملحان البحر وغزت مع اسطول معاوية بن ابي سفيان ولم يقل لها المسلمون الاوائل هذا لا يجوز ولو فعلتها امرأة من عصرنا لوجدت امامها عشرين فتوى تحرم عملها في الثكنات والاساطيل والقوى الجوية.

وفي مجال تحريم التعذيب الجسدي وبعد ان يذكر القصيبي نص الحديث النبوي "ان الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" يستشهد المؤلف بموسوعة العذاب للشايجي الذي عرض فيها كافة اشكال التعذيب في العالم الاسلامي من الربط على الدولاب الى ادخال الضحايا في تنور المسامير المحمية وبعد الاستشهاد والاستطراد يقترح المؤلف ان يوضع ذلك الحديث النبوي الشريف على مدخل كل كلية امنية وان يتحول الى مادة دراسية فيها حتى نتوقف عن تخريج جلادين وزوار فجر ونخرج بدلا من ذلك شرطة تعرف واجباتها وتحافظ على كرامة الناس وحرياتهم وقدسية حياتهم الشخصية التي لا يجوز التلصص عليها ولا التدخل فيها تحت اية ذريعة فالاسلام ايضا ـ وعند القصيبي نص حول ذلك ـ لا يبيح تجريم أي بريء قبل ان تثبت ادانته بالادلة القاطعة.

ان كتيب "ثورة في السنة النبوية" لغازي القصيبيي يغني عن موسوعة وهو علامة فارقة ومؤشر قوي على بروز تيار متنور ومؤثر في الجزيرة العربية يتقن كافة ادوات المعارف الشرعية ويمتلك الجرأة لاقتراح قراءات وتفسيرات وتعليقات جديدة تساعد على تحرير الفكر الديني من قيوده التي تتراكم وتتعقد منذ ان اعتقد البعض ان ابواب الاجتهاد اغلقت فانساقوا وساقوا معهم امة بكاملها الى وديان الخمول والجمود.