السيف والقلم

TT

عندما طارت شهرة جبران خليل جبران في اميركا، لم يعد يقول عن نفسه انه ابن مهاجرة فقيرة ماتت بالسل، بل صار يقول للذين لا يعرفون أصوله، انه أمير من الهند. واخذ يعمل من اجل ان يعود رئيسا في لبنان، مع انه اصبح الكاتب الاكثر مبيعا في تاريخ النشر الاميركي (الآن تقدّم عليه جلال الدين الرومي).

وكان اندريه مالرو علما من اعلام فرنسا، او لونا من الوان علمها، لكنه كان يتشهى المنصب ويسعى اليه ومن اجل الوصول يبالغ في الاشياء. وقال ذات مرة ان رئيس وزراء الصين ايام ماو، شو ان لاي، لم يكن يعرف من الفرنسية سوى جملة «سفرا سعيدا» مع انه امضى عامين في شبابه عاملا في باريس (وكذلك الزعيم الصيني لاحقا كسياو بنغ الذي عمل دهانا)، وعندما قال صحافي لمالرو، كيف كان يتفاهم مع شو اني لاي اجاب: «آه لانني اتكلم الصينية، ولذلك كان يحذرني كثيرا».

كان كامل شعيب العاملي من ارق واعمق الشعراء في لبنان. وكان جليساً معارفياً وعلى قدر شديد من الخلق، لكنه كان يرتدي باستمرار طقما رسميا اسود. وبسبب سمنته كان يرفع سرواله «بشيالات». وفوق الطقم الاسود كان يعتمر طربوشا داكنا مثل باشاوات مصر. صيفا شتاء. وفي الصيف كان الشاعر يتعرق ويعاني تحت السترة الثقيلة، لكنه لم يخلعها حتى مماته. فقد كان يخشى ان يستدعى الى تشكيل الوزارة في اي لحظة. وكانت الناس تخاطبه مازحة: دولة الرئيس، أما هو فلم يمزح في الأمر لحظة واحدة.

كان رشدي المعلوف من اكبر الاساتذة والكتاب في لبنان، وكان مدرسا جامعيا مميزا. وفي اوائل الستينات اصدر صحيفة «الصفاء» التي كانت من الصحف الاولى ولكن هـذا الرجل الذي كان يقوم له الناس تقديرا واعجابا، كان يحلم بمنصب وزاري. وكلما استقالت الحكومة في لبنان كان يجلس في مكتبه وينتظر ان يستدعى الى القصر الجمهوري. وكان في الجريدة عاملة هاتف تدعى اميلي، فكلما عاد الى المكتب توقف عندها وسألها بأدبه الجم: اميلي، حدا تلفن من القصر؟

كان استاذ الفلسفة شارل مالك اهم اكاديمي في تاريخ لبنان، وقد اعطي 62 دكتوراه فخرية من حول العالم. وشارك في الامم المتحدة في وضع شرعة حقوق الانسان. ويروي كتاب صدر قبل عامين عن حياة اليانور روزفلت مدى التأثير الفكري الذي كان للدكتور مالك على البيت الابيض في عهد واحد من اهم الرؤساء.

لكن شارل مالك مات وهو يحلم بمقعد نيابي في منطقة الكورة. ولم يعرف المجلس النيابي في اي مرحلة رجلا في كفاءته العلمية لكنه ظل يغبط صغار النواب على مقاعدهم. ومات والمقعد بعيد. وعلى جدران منزله من الشهادات العلمية ما لم يحصل عليه احد.

العام 1972 كانت «النهار» اهم جريدة عربية خارج مصر. وكان غسان تويني اهم صحافي في تاريخ لبنان. وكان يتجمع في مكتبه كل مساء جبابرة السياسة اللبنانية: من كميل شمعون الى صائب سلام الى ريمون اده. وكان اصحاب الحظوظ والمقامات فقط يصعدون الى «الطابق التاسع» في «النهار»، الذي كان يأتي اليه وزراء الخارجية العرب والرؤساء السابقون، وكان غسان تويني يسقط العهود. و«النهار» هي التي قادت الحملة لاسقاط الشهابية. ومن مكاتبها ترشح سليمان فرنجية للرئاسة بمقال افتتاحي عنوانه «وطني دائما على حق».

ومع ذلك خاض غسان تويني المعركة من اجل مقعد انتخابي في منطقة «عاليه» وحدث وجوم في اسرة التحرير، واعتبر الجميع انه سوف يهمل منطقة كبرى من اجل منطقة صغيرة. وذهبت اليه بعد ظهر احد الايام في المنزل الذي استأجره في عاليه. وقلت له ان احدا لا يفهم قرارك: امبراطور يسعى إلى منصب ملازم! وكانت تربطني «بالمعلم» ولا تزال رابطة تتعدى العلاقة الوظيفية. وتأمل قليلا ثم قال: اريد الحماية، لكم ولي. الصحافة غير محمية. اذا طعنا في الخارج يبقى لنا البرلمان نقاتل تحت سقفه.