مدام كوري.. التحدي الكبير

TT

في الرابع من يوليو من عام 1934، خرجت من مصحة (سانسلومور) بسويسرا، نشرة طبية دوى صداها في العالم كله، لنقلها خبرا محزنا جاء فيه:

«ان السيدة ماري بيير كوري، توفيت مساء اليوم، بسبب اشعاعات الراديوم..».

قتلها الاكتشاف الذي قضت سنيّ حياتها من اجل ان تقدمه هدية للبشرية.

قصة هجرتها من بولندا الى فرنسا اشبه بأحداث رواية بوليسية. عرفت كوري بجديتها، وانكبابها المفرط على الدراسة، ولم تكن تعتني بصحتها.. وقد كان يغشى عليها اثناء الدراسة والعمل، مما دفع بشقيقتها لأن تقول لها يوما:

«.. لن اسمح لك بعد اليوم ان تكوني وحدك في المعمل!! ماذا لو اغمي عليك، وفي يدك انبوب به حامض الكبريتيك؟!! اليس هذا جنونا؟! هيا يا ماري اجمعي ثيابك، واصحبيني الى منزلي لتقيمي معي..».

فتجيبها:

«.. ارجوك، لا تطلبي مني ان اذهب معك، فأنا سأعيش في هذه الغرفة الصغيرة، لأنها تضم الاجهزة التي اجري بها تجاربي العلمية، رغم الرطوبة، والاجواء الملوثة.. آسفة يا كلوديا سأبقى في غرفتي مع كتبي ومعملي وابحاثي..»!!

تحدٍ واصرار

رغم الظروف الاجتماعية، والمادية، والنفسية، والتي كانت كلها تحاربها، الا انها لم تكن تشعر بتلك الحرب.. فحربها الحقيقية، كانت مع عدو آخر.. انه المرض.. ولكن أي مرض؟ لم تكن تعرف اسم العدو الذي اعلنت عليه حربها، فمنذ اول يوم دخلت فيه جامعة السوربون، وتحديدا في معمل باستير، الذي يقع في منطقة سان ميشيل، وهي تعيش في حالة من التقشف، لم تكن تشعر بالبرد، او الجوع، كانت تكتب المعادلات والارقام والملاحظات العلمية، بيد مرتعشة، واصابع متجمدة.. وكانت تكتفي بالخبز، والزبد، والشاي.. كطعام لايام، بل لاسابيع!! وبينما كانت تهم بدخول المعمل في احد الايام.. سمعت من يقول لها:

«آنسة ـ كلودوفيسكى ـ اليس في رأسك غير العلم والمعمل، والابحاث؟!».

فالتفتت نحو مصدر الصوت، واذا هو الاستاذ بيير كوري، فأجابته: «نعم.. ان في رأسي بولندا.. بلدي التي اعشقها».

فقال لها: «علمت انك تحتفظين في غرفتك بخريطة كبيرة لبولندا، هل تسمحين لي ان القي نظرة على هذه الخريطة؟!».

أجابته: «لا مانع عندي.. ولكني احذرك من الآن: فإن غرفتي قد لا تروق لك!!».

واصطحبته الى غرفتها.. وقد فسَّر البعض ـ في ما بعد ـ ان الشابة البولندية، قد نصبت فخا للاستاذ الفرنسي، للحصول على جنسية بلده، وقدم هذا التفسير كواحد من الأدلة في قضية اقامتها (زوجة مهجورة)، على العالمة البروفيسورة الشهيرة مدام كوري تتهمها بالفجور، والانحراف الخلقي، واختطاف رجل متزوج!!

والعجيب.. انه رغم دلائل الفقر المدقع في غرفة ماري، فإن بيير كوري ابن الخامسة والثلاثين، قد وجدها غرفة رائعة بصاحبتها الشابة الرقيقة الخجول، والتي عرفت بترددها، وخوفها من الاقتراب من عالم الرجال!!

الزواج

وكثرت زيارات بيير كوري الى غرفة ماري، كما كثرت معها الشائعات، الى ان فاجأها يوما قائلا:

«ماري..!! اتمنى لو تقبلينني زوجا لك؟!.. ولا تقولي بعد كل ما بيننا انه طلب مفاجئ».

فاقتربت منه، ووضعت رأسها على صدره، وقالت:

«كلا .. يا بيير، لقد كنت اتوقع ان يكون ذلك الطلب محصلة نهائية للمعادلة.. حب من طرف!! وحب مماثل من طرف آخر.. المحصلة الزواج!!.. حسنا دعنا نسجل هذه المعادلة في الكراسة..!!».

فقال لها:

«بل، سأكتبها بنفسي على خريطة بلادك»، ثم تناول القلم، وكتب: (الخميس 12 يوليو عام 1895، تزوجت ماري).

ثم سألها: «ما رأيك؟!».. اجابت وهي تكاد تطير من السعادة:

«معادلة صحيحة.. لا ينقصها سوى التوثيق والاشهار، بعد ان تذهب الى والديك، وتعلن عليهما الخبر..!!».

المحاكمة!!

الجملة التي كتبها بيير كوري على خريطة بولندا، استخدمت في المحكمة ضد مدام كوري، على اعتبار انها تتماشى مع الشائعات لأنه كتب يقول: (تزوجت)، وهي فعل ماض، استدلت عليه النيابة، بما اسمته بانحرافات مدام كوري، وتهتكها الخلقي قبل الزواج!!.. وكيفما كانت الحقيقة، فقد كان زواج بيير كوري من ماري، من انجح الزيجات بين العلماء.. رغم ما يشوبه من ملاحظات، وعدم تكافؤ!! فهي مهاجرة فقيرة، بلا هوية معترف بها من الحكومة الفرنسية، وفي اوراقها جملة تقول:

(مهاجرة بولندية طلبت الجنسية الفرنسية، ولا يزال طلبها قيد البحث..).. بعض خصومها في محاكمتها، انكر (الحب) الذي ادى الى زواجها، وكانت مذكرة النيابة في مرافعتها بتلك القضية تقول:

«لقد كان الهدف الحقيقي للبولندية من استضافة الاستاذ المرموق المرحوم بيير كوري في غرفتها المنعزلة في كلية العلوم ليلا، ودون رقيب، انما هو خطة لاصطياد زوج تحصل من خلاله على الجنسية الفرنسية.. وبيير كوري.. كان يعمل في مجال الكيمياء، بينما البولندية، كان مجالها الكهرباء.. مجالان متنافران كقطبي مغناطيس.. ولكنها من اجل الاقتران بالرجل، نقلت نشاطها بالتدريج الى مجال نشاطه.

ويوما بعد آخر، اخذت ماري تتفاعل مع مجالات دراسة زوجها (الكيمياء)، وكانت سعادة الزوج لا توصف، خاصة عندما رأى المحبوبة الصغيرة، وهي تجري تجارب ناجحة على املاح الاورانيوم.. وها هي تقترب اقترابا خطيرا ومدهشا، من الوصول الى (الراديوم) الذي استفادت البشرية كلها من اشعاعاته.

شهور طويلة تمر عليها في المختبر الرطب، المعتم في الشتاء، والخانق في الصيف، وهي تعمل مرتدية تلك الملابس الرثة، الملوثة بالاحماض، ويحيط بها الدخان الكثيف من كل جانب.. تحرك على النار بعض المواد، بقطعة من الحديد.. وعندما تجلس وراء مكتبها في الليل، تكتب في مذكراتها:

«اجرب تقريبا كل المواد، التي اتوقع ان تصدر نشاطا اشعاعيا.. الحجرة مليئة بأوعية السوائل، والمحاليل، والرواسب.. لقد اجهدني حمل تلك الاوعية، وتحريك المواد المنصهرة.. غير ان كل جهد يهون ازاء النظرة الحانية الرقيقة من الحبيب.. بيير!!».

النجاح

وفي احد الايام.. بينما كانت ماري منهمكة في تجاربها، لم تتمالك نفسها من الصراخ: «يا بيير.. يا بيير.. نجحنا يا بيير..».. فلما اقبل عليها مستفسرا.. قالت:

«انظر، ها هي عشرة جرامات من العنصر المشع.. انظر اليه، ما اجمله.. انه كالثلج..».

وبعد ان حققا انتصارهما العلمي، وقف بيير امام زملائه في كلية العلوم وبجانبه زوجته ماري.. ثم اخذ يشرح لهم طبيعة العنصر الجديد الذي تم اكتشافه.

وطار صيت ماري، وبيير كوري في العالم اجمع، واخذت الهيئات العلمية، والاكاديمية تتنافس على تكريمهما.. وانهالت عليهما عروض كثيرة من الشركات الصناعية في اوروبا، وامريكا، كما انهالت عليهما القاب الشرف العلمية..

واصبح بيير كوري مرشحا لعمادة كلية العلوم في الجامعة، ولكن الاقدار لعبت دورها.. فحين حاول بيير كوري عبور الشارع، داهمته عربة فسقط بين قوائم جوادين، واذا بالعجلة الخلفية، تمر على جمجمته، فتناثر المخ العبقري على احجار الشارع..!!

كتبت مدام كوري في مذكراتها:

«لقد عرضوا عليّ يا حبيبي ان اخلفك في مقعدك بالجامعة، ولست ادري هل اصبت، أم اخطأت، لكن هدفي ان يبقى اسمك (كوري) رمزا للمحافل العلمية..!!».

نشاطات إنسانية!!

غدت مدام كوري من اشهر النساء، بعد ان حصلت على جائزة نوبل للعلوم، حيث قامت بانشاء معهد الراديوم، ومعمل للابحاث البيولوجية لدراسة مرض السرطان.

وعندما كانت طريحة الفراش في سويسرا كتبت في مذكراتها التالي:

«حبيبي بيير.. كم اتوق الى ان ارقد بجوارك! فمتى يكون ذلك يا حبيبي؟ فبعد ان حققت امنيتك بانشاء معهد لعلاج مرض السرطان، وأسست فيه معملا كبيرا ونظيفا تحقيقا لأمنيتك.. بت اشعر انني سألحق بك، فأنا متعبة يا بيير».