رسالة انتخابات نقابة الصحافيين المصريين

TT

انتخابات نقابة الصحفيين المصريين (4300 عضو) تحولت الى حدث له أكثر من دلالة على المستويين المهني والعام، حتى اننا لا نبالغ اذا قلنا ان النتائج جاءت حافلة بالمفاجآت التي لم تكن في الحسبان، وهي شهادة لها وليست عليها، لان الفرق بين الانتخابات النزيهة وغير النزيهة يكمن بالتحديد في عنصر المفاجأة هذا. فالنزيهة لا تعرف نتائجها سلفا، وإنما يتيقن الناس من النتيجة بعد فرز الأصوات جميعها حتى آخر صندوق، وهو ما يعني ان النتائج تظل حبيسة الصناديق حتى يجري فض مغاليقها جميعا، أما الانتخابات غير النزيهة فإن نتائجها تكون معروفة سلفا ـ لأولي الأمر بطبيعة الحال ـ وهي لا تكون حبيسة الصناديق، ولكن مكانها يصبح في ادراج المكاتب وملفات القرار الضيقة.

لقد شملت الانتخابات منصب النقيب ومدته سنتان قابلة للتجديد، وعضوية مجلس النقابة الذي يضم 12 شخصا، ومدة العضوية 4 سنوات، وشملت المفاجآت المستويين، النقيب والمجلس، إذ ان المعركة على مقعد النقيب جرت أساسا بين مرشح للحكومة هو الاستاذ صلاح منتصر الكاتب بالاهرام وعضو مجلس الشورى ورئيس التحرير السابق لمجلة «اكتوبر»، أما المرشح الثاني المحسوب ضمن الناصريين، والمنسوب بالتالي الى المعارضة، فهو الاستاذ جلال عارف، الذي يعمل أصلا في مؤسسة أخبار اليوم، وقد حرصت الحكومة على انجاح مرشحها، عندما أعلن رسميا ان رئيس الوزراء اعتمد أربعة ملايين جنيه مصري لزيادة معاشات الصحفيين، كما ذكر الاستاذ منتصر انه فضلا عن ذلك فإنه تم الاتفاق مع رؤساء المؤسسات القومية الذين تربطهم بالحكومة علاقات خاصة، على زيادة رواتب العاملين بها بمعدل 40 جنيها لكل فرد في الشهر، وكان واضحا ان ذلك كله سينفذ اذا ما نجح صلاح منتصر، أما في حالة سقوطه فلابد أن يختلف الأمر، ومن ثم سيخسر الصحفيون فرصة زيادة مرتباتهم كما سيخسر المتقاعدون نسبة الزيادة في معاشاتهم.

هذا الاعلان المكشوف الذي كان بمثابة تدخل صريح من جانب السلطة التنفيذية لصالح مرشح بذاته في الانتخابات، استنفر قطاعات غير قليلة من الصحفيين الشبان خاصة، إذ اعتبروه محاولة لاستمالة الصحفيين ورشوتهم، بمبالغ هزيلة ومتواضعة، من ثم فالرسالة التي اريد بها دعم موقف صلاح منتصر جاءت بأثر عكسي أساء الى موقفه.

يتعذر القول إن المنحة المالية كانت السبب الرئيسي في هزيمة مرشح الحكومة، لان هناك أسبابا أخرى أدت الى تلك النتيجة، بعضها رئيسي والآخر فرعي وأقل أهمية، من الاسباب الرئيسية المهمة تنامي الصوت المعارض في أوساط الصحفيين، حتى ازعم ان الهزيمة كانت ستقع حتى اذا لم تكن الحكومة قد حاولت حشد التأييد وراء صلاح منتصر عبر اغراء الصحفيين بحكاية المنحة المالية، السبب الثاني المهم ان مرشح الحكومة لم يكن له أي سجل نقابي، حتى انه لم يكن يرى في النقابة في أي وقت، حتى أشاع البعض ـ من باب التندر والغمز ـ انه حين ذهب لتقديم أوراق ترشيحه نقيبا أخطأ العنوان، وذهب الى مقر مستشفى قريب من النقابة، وهناك نبهوه الى الخطأ ودلُّوه على مكانها!

لكن أكثر ما أساء الى موقف صلاح منتصر زيارته لاسرائيل مرتين خلال السنوات الأخيرة، رغم ان الجمعية العمومية للنقابة كانت قد أصدرت قرارا التزمت فيه باستمرار مقاطعة اسرائيل طالما استمر احتلالها للاراضي الفلسطينية ورفضها الاعتراف بحقوق شعب فلسطين، ولأن الاستاذ منتصر كان يواجه بالنقد حيثما ذهب من جراء زيارتيه، ولان تبريره لما قام به كان ضعيفا وغير مقنع (قال انه ذهب مرة لكي يتعرف على اسرائيل من الداخل، ومرة ثانية لكي يحتج على سياستها الاستيطانية)، بسبب ذلك فان موقفه ازداد ضعفا، فضلا عن انه أثر على خطابه الذي بدا دفاعيا وتبريريا طول الوقت.

من الأسباب الفرعية ان المؤسسات الصحفية ضاقت بهيمنة مؤسسة الأهرام التي يعمل بها صلاح منتصر على النقابة، واعتبرت توليه منصب النقيب بعد ابراهيم نافع الذي أمضى 12 سنة في ذات الموقع (السنوات الأربع الأخيرة تواصلت) بمثابة شكل من أشكال «التوريث» السائد في الأوساط الرئاسية بالعالم العربي، ومن ثم فقد رغب كثيرون في ان ينتخبوا نقيبا من خارج «العائلة الاهرامية»، من باب «التداول» وكسر الاحتكار.

كل الأسباب التي اضعفت موقف منتصر، صبت في صالح منافسه الرئيسي جلال عارف، فالأخير مرشح المستقلين والمعارضة وليس الحكومة، فالتصويت له يبعث برسالة «إثبات حضور» من المعارضة والحكومة، ثم انه نقابي قديم خاض الانتخابات أكثر من مرة، ونجح وهزم، الأهم من ذلك انه يقف في المربع الوطني الرافض للتطبيع، والمقاطع لأية اتصالات مع الاسرائيليين، بالزيارة أو بغيرها، وهو ليس من أسرة الأهرام ولكنه ينتمي الى «عشيرة» أخرى منافسة.

كانت النتيجة فوز جلال عارف بـ1875 صوتا، توزعت على مختلف المؤسسات الصحفية المصرية، أما صلاح منتصر فقد حصل على 1415 صوتا، أقل من نصفها بقليل من مؤسسة الأهرام وحدها، الأمر الذي أوصل الى مقعد النقيب وجها جديدا من المعارضة ومن خارج مؤسسة الأهرام.

الأجواء ذاتها أثرت على مجلس نقابة الصحفيين، الذي جاء ثلثاه من الاسلاميين والناصريين (4 مقاعد لكل منهما)، أما الباقون فقد تراوحوا بين مستقلين وحكوميين وبذلك اطلت نقابة الصحفيين هذه المرة على المجتمع بوجه مغاير تماما عن شكلها المألوف من نقيب ناصري الى مجلس أغلبيته من الاخوان والناصريين.. ماذا يعني ذلك؟

يعني بالدرجة الأولى ان أية انتخابات نزيهة ـ كتلك التي جرت في النقابة- تسفر في مصر عن نتائج مخالفة تماما لتلك الصورة النمطية التي تظهر في الانتخابات البلدية والنيابية، والتي يكتسح فيها الحزب الوطني أغلبية المقاعد، يعني أيضا هزيمة ليس فقط للتيار الحكومي، ولكن لتيار التطبيع، الذي يحظى بدرجة مشهودة من الاستياء والرفض.

أيضا يعد ما جرى بمثابة عودة الروح الى قطاع النقابات المهنية، الذي تخضع أهم النقابات فيه للحراسة وتدار بواسطة ممثلين للحكومة، بعدما تولت شؤونها عناصر غير موالية، ولاحت فيها بوادر التمرد على الالتحاق بقاطرة السلطة. وقد ظلت نقابة الصحفيين بمنأى عن ذلك المصير لانها كانت تتحرك في حدود عباءة السلطة، وداخل نطاق الخطوط الحمراء، ولكن ها هي النقابة تخرج من العباءة وتحاول الوقوف في دائرة المهنية المستقلة، وأغلب الظن انها لن تحاول عبور الخطوط الحمراء، وان كان البعض يبدي قلقه من المستقبل، ولا يستبعد ان توضع بدورها تحت الحراسة يوما ما، اذا لم تنجح في اختبارات «التجاوب» على النحو المطلوب.

أنهي وأكرر ان الرسالة الأهم التي بعثت بها انتخابات نقابة الصحفيين الى الكافة تقول بصريح العبارة: ان الديمقراطية الحقيقية اذا سادت، فانها لا بد ان تسفر عن نتائج معاكسة تماما لاتجاهات الريح المهيمنة على السطح في العالم العربي، لانها حين تدفع الى الصفوف الأمامية بالقوى التي تعبر حقا عن الضمير الوطني والقومي، فسوف يكون للكثير مما يحدث الآن شأن آخر، يكفي فيه أن يكون متجاوبا مع ذلك الضمير، وأمينا في تجسيد تطلعاته وأشواقه.