أي حوار بين الغرب والإسلام..؟

TT

تتحدد رؤيتي للعالم من خلال معطيات موضوعية واخرى ذاتية. وتصور الآخر يسهم في تحديد تصوري للعالم. إذ لا يمكن ان أتغاضى عن منظور الآخر وتصوره لي. سوف اتوقف في هذه العجالة عند بعض العينات من تصورات العالم، وأبدأ بروبرت كاغان، احد المعلقين الامريكيين المرموقين، ولأقف عند ما يتضمنه كتابه الاخير «عن الجنة والسلطة». آن الاوان، يقول المحلل الحصيف، لوضع حد لفكرة ان الاوربيين يشاطرون نفس التوجه ونفس الرؤى. وبنفس المنظور، فمفهوم الغرب كما ساد ابان الحرب الباردة قد تلاشى. وان مرجعية امريكا هي مصلحة امريكا ودفع الاخطار التي تتهدد ترابها ومواطنيها. وغاية اوربا ليست هي الغرب، ولكنها اوربا. اما احداث 11 سبتمبر (ايلول) فهي لم تغير امريكا، وانما دفعتها ان تصبح ذاتها. ان نزوعها الى الهيمنة امر طبيعي، ويستجيب مع تاريخها وارادة آبائها المؤسسين.

في الجانب الآخر من العالم في اوربا وفي فرنسا، يفصح احد المفكرين الذائعي الصيت، ريجيس دوبري، في كتابه «مرسوم كاركالا» عن رؤية مغايرة. فاوربا لا يمكن ان تدير ظهرها لمآسي العالم. وعالم الاسلام من الاقرباء، ويمر بظروف صعبة يتعين مساعدته ليواكب عصره.

ولو استمعت الى الاصوات المترددة بين ظهراني لوقفت عند تصور مثقفة اسلامية، كتبت كتابا بالفرنسية بعنوان «فلتخفق الشراع». وهي ترى ان الغرب يبطن في دعوته العالمية والانسانية، نزوعا حربيا وتوقا للهيمنة. وهو لذلك يوظف قدراته النووية في الحالات القصوى، وقدراته الاعلامية في حملة هي عبارة عن حرب استنزاف. ويظل الاسلام، وفق تصور الناشطة الاسلامية، المتمرد الاكبر والعدو المحتمل، رغم ما يتخبط فيه من مشاكل، بل ان الشفاه تتلمظ طمعا ورغبا رغم فقره ومآسيه.

وبنفس التربة، التي هي تربتي، يصدر مثقف أمازيغي كتابا بالعربية يحمل عنوان «خريف السعار»، يقف فيه على تصوره للعالم بعد احداث 11 سبتمبر. وهو يقول ان 11 سبتمبر فتحت له منادح لا يمكن ان يتستر عنها، وهو ما تطلب ان يخضع التراث والحضارة التي ينتمي اليها الى النقد والدرس. وهو يرى ان هناك شيئا سلبيا في التفكير الديني حين يتسلط على رقاب الحياة العامة، لان الدين، كل دين، يصدر عن حقيقة مطلقة، في حين ان الحياة العامة او الحياة نسبية.

وأختم هذه العينات بتصور، او على الاصح بتساؤل احد الكتاب الفرنسيين هو برنارد هنري ليفي: من سينتصر في نهاية المطاف، المسلمون المعتدلون، ام حمقى بيشاور الذين يفجرون انفسهم طمعا في الشهادة؟ هي قضية العالم الذي تبزغ ملامحه.

أتوقف هنا. انني إذ آخذ بعين الاعتبار تصور «الآخر» مطالب ان اعطي معنى لهذه الاضغاث من التصورات والتمثلات والتأويلات. فانا مسلم، عربي ـ امازيغي، او أمازيغي ـ عربي، وهويتي تتحدد في نهاية المطاف بما اريد ان اسبغه عليها. نفس الشيء بالنسبة لاسلامي، لانني مسلم واتبنى ذلك، يتحدد من خلال ما أريد ان اسبغ عليه. فالمجتمعات تتأثر بالدين بقدر ما تؤثر فيه. ولقد سبق لوزير الشؤون الدينية في بلدي ان قال، انه يتعين احترام الخريطة المذهبية في العالم الاسلامي. وهو محق في ذلك. وكان يتعين عليه ان يضيف لان ذلك نتاج مسلسل تاريخي.

ثم حينما نتحدث عن الغرب، فنحن نتحدث عن مفهوم فضفاض. لو وقفت على تحديد ينبني على قيم العقلانية والحداثة والنسبية وحقوق الانسان، لكنت انا غربيا. ولا أحتاج ان اولد بامستردام او برلين لأعانق هذه القيم. وبالمقابل ادرك ان هناك في باريس وواشنطن وتل ابيب تسود تصورات تمجد عرقا وتنفر من الآخر، وتعتبر نفسها مؤتمنة على حقيقة مطلقة. وباسم هذه التصورات اطلق حاسيديم النار على جموع من المصلين المسلمين في الخليل وقتل قرابة خمسين. وهنا بباريس ألقي مغربي في نهر السين، لا لشيء إلا لـ«ذنب» سحنته. وقضى جراء هذا العمل المشين. وبلندن وبروكسل هناك متطرفون مسلمون يشيعون مفهوما للاسلام يقوم على الكراهية والاقصاء. اذن فالغرب جزء منا، والتطرف، سواء كان اسلاميا او غير اسلامي موجود في الغرب. وهو للاسف الشديد يجد تواطؤا من قبل بعض الجهات، وان كان تواطؤا سلبيا

لا مندوحة من الحذر من التعميمات، والتصورات الجاهزة، وينبغي والحالة هذه التسلح بالمعرفة الدقيقة، ومعرفة الفروق عوض ارتسامات وخواطر بعض الصحافيين. وهي مسؤولية تقع على الباحثين والجامعيين.

ان الاسلام معتقد. ويمكن للمرء ان يعانق هذا المعتقد من خلال النص، وهو ما اصطلح عليه بالنقل في التراث الاسلامي، او من خلال العقل. والقرآن نفسه يؤكد ان امر المعتقد شأن باطني «لا إكراه في الدين». وهذه الآية الكريمة بالمناسبة، يقع التعتيم عليها من قبل عناصر مما يسمى «السلفية الجهادية». وغاية المعتقد او الايمان هو ان يعطي معنى للحياة، ولا يمكنه بحال ان يكون نفيا لها، والاسلام بالنص القرآني صريح في ذلك، تقول الآية الكريمة «ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم».

والاسلام ثقافة يتسع لكل الذين يضطربون في مجتمعاته، كما يسع عطاءاتهم. وهو كذلك حضارة، او انتماء حضاري. وهو شعور يتحدد في الزمان والمكان، على خلاف الثقافة التي تتحدد في المكان، وهي غير ارادية. وهذه العناصر متداخلة فيما بينها، لكنها يمكن ان توجد منفصلة. ومن الصعب فصل الدين عن ثقافته، كما يصعب فصل الثقافة عن الدين. ولذلك ليس يسيرا ان نفرض العلمانية على مجتمعات اخرى. فهذه بنت مجتمعاتها كنتاج مسلسل تاريخي. وينبغي ان نميز بين الزمنية التي هي اتجاه عالمي، وبين العلمانية التي هي الشكل الاكثر اورثدوكسية للزمنية، والذي اخذ شكل نبذ الدين او فصله عن الدولة. فمنظومتنا في غالبية دول العالم العربي وضعية، وبرامجنا التعليمية في جامعاتنا العلمية تفسر العالم بالعلم وليس بالغيبيات.

ومن المستحب ان نستخلص قيما اخلاقية من ثقافتنا، لان المجتمعات تتقبل وتتفاعل مع ما هو من صلبها. والغائب الاكبر في نتاجنا الفكري وفي مناهجنا التربوية هو القيم الاخلاقية المسلمة. ولو تملينا تراثنا لوجدنا حقا اساطين لا يشق لهم غبار صاغوا انسانية اسلامية امثال ابن مسكويه، وابي حيان التوحيدي، وابن حزم، وابن عربي، وغيرهم كثير.

بيد انه لا يمكن ان نبخس جهود متنورين يجعلون وكدهم مقولة جوته الشهيرة: ما ترثه عن ابيك اكتسبه لكي تمتلكه. واذكر هنا احد الجهابذة الذي سعى ان يطور الفكر الاسلامي من ارضية اسلامية دونما نبذ للدين او عزوف عنه، انه محمود طه السوداني. لقد دفع الثمن غاليا، وكان نصيبه الشنق.

ان الاسلام يمكن ان يكون ايديولوجيا. ان هذا الطرح هو ما يطرح مشكلا، لان باسم ايديولوجية معينة تتم قراءة الماضي بشكل معين، وتصور للمستقبل بشكل طوباوي، ويتم وفق هذا المنظور النزوع الى العنف. ويطفح تاريخ الاسلام بسوابق في هذا الشأن، منذ الخوارج الى القرامطة مرورا بالاسماعيلية.

ان الحوار مثلما اسلفت يستلزم اول ما يستلزم: المعرفة العميقة. فالناس اعداء ما جهلوا مثلما يقول المثل العربي. وبالمقابل، فالمعرفة هي سبيل التعايش بين البشر. وللاسف الشديد فـ«المعارف» السائدة هي تصورات، وغالبا ما تكون ناتجة عن قصور معرفي.

إن اولى الاولويات هو اجراء حوار بين المسلمين. ان صدام الحضارات ليست شبحا بل حقيقة، لكنه ليس على خلاف ما قدر هانتنغتن صراعا بين الاسلام والغرب، ولكنه صراع داخل الاسلام. ليست حدود الاسلام التي تقطر دما كما سبق لبرزنسكي ان قال، بل هي احشاؤه.

وفي غياب هذا الحوار، يجري تلفيق عشوائي يستقي من هنا وهناك قواعد تبرر الفتنة. ففكرة الموت الانتحاري التي وظفتها فرقة الاسماعيلية، نجدها عند مسلمين من السنة، وتفجرت في الدار البيضاء في 16 مايو (ايار). وزواج المتعة الذي هو رخصة شيعية، تلجأ اليه الجماعات الاسلامية المسلحة بالجزائر. والتقية، التي هي مبدأ شيعي، اضحت المنظومة المنهجية لدى الحركات الاسلامية السنية. وعلى شاكلة غلاة الخوارج الذين كفروا من سواهم، يكفر «خوارج» اليوم الآخرين، ويفتون بقتل اهليهم وذويهم، وتحليل نسائهم وممتلكاتهم التي هي في عرفهم فيء.

لذلك لابد من مصالحة اسلامية ومن منظومة تجري الحوار بين المسلمين، بين السنة والشيعة، بين المحافظين والتقدميين، بين العلمانيين والمتدينين، بين المثقفين والعلماء. حوار يستخلص منه تصور واضح المعالم، يهدئ من حدة التوتر لعالم يتوزعه الحرمان والفقر والاحتلال.

ان من الضروري تشجيع المبادرات الصادقة للحوار التي يتقدم بها الغرب. بيد ان اكبر اسهام يمكن ان تقدمه اوروبا، التي هي من يعول عليها في هذا المنحى، هو المساعدة في التنمية. ان الجانب الآخر للاسلام المتطرف هو ان اسلاما سمحا انسانيا لا يمكن ان يشع في تربة من الفقر. وينسب الى الامام علي، كرم الله وجهه، مقولة معبرة «كاد الفقر ان يكون كفرا».

كم من اصوات مسؤولة تنبع من اوروبا تدعو من يعيشون جنبا الى جنب ان يعيشوا في وئام، كما ورد في كلمة لوزير خارجية فرنسا دومنيك دوفلبان. انها اصوات حكمة لا يمكن ان نتركها تتبدد. ان في اهدارنا لهذه الفرص دفعا للعالم نحو مخاطر لا تحمد مآتيها ولا مراميها.

* رئيس مركز طارق بن زياد