آن أوان الرحيل

TT

عندما التقى الرئيس الاميركي جورج بوش برئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون في واشنطن الاسبوع الماضي حثه، مرة اخرى، على تجميد التوسع في اقامة المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية وغزة، والتي يعتبر وجودها عائقا دائما امام مفاوضات السلام، بما في ذلك «خريطة الطريق» التي يجري السعي الى تطبيقها حاليا. واذا ما حكمنا على الامور من خلال رد فعل شارون الملتبس، فان طلب بوش لم يجد اذانا صاغية.

ويبدو ان المشكلة عسيرة الحل. فكل من رأى شبكة الاستيطان سيعرف ان الامر ليس مجرد عدد قليل من المخافر المؤقتة كتلك التي جرى اخلاؤها من جانب الحكومة الاسرائيلية في الاشهر القليلة الماضية كوسيلة لكسب بعض الدعم الدولي. انها مجموعة من المدن الصغيرة، والمناطق الصناعية والتجارية، والمدارس والكليات، والطرق والخدمات العامة. وعندما يسافر المرء عبر المستوطنات، يبدو له انها مدت ورسخت جذورها من اجل البقاء.

غير ان عددا من العوامل تطرح، في الوقت نفسه، اسئلة حول المستقبل البعيد لهذه المستوطنات. فعملية السلام نفسها قد تكون اكبر تهديد لها، ولكن هناك اشياء اخرى. والحقيقة ان كثيرا من المستوطنين، الذين عززوا سمعتهم باعتبارهم من منتسبي الجناح اليميني، يقولون انهم مستعدون للتفكير بالرحيل.

ويشير استفتاء نشرته، الاسبوع الماضي، منظمة «السلام الآن» الى ان ما يزيد على 70 في المائة من المستوطنين، بما يشكل زيادة عن استطلاعات سابقة، يمكن ان يوافقوا على ان يغادروا، في نهاية المطاف، الضفة الغربية وغزة اذا ما جرى تعويضهم، بينما يعبر 29 في المائة عن استعدادهم للمغادرة في الحال. وقال 71 في المائة منهم انهم يعتقدون ان اتفاق سلام يمكن ان يطلب منهم الرحيل عن مستوطناتهم امر حتمي.

وبينما شكك بعض زعماء المستوطنات المتشددين بنتائج الاستفتاء، فان الحقيقة تبقى تشير الى ان عددا متزايدا من المستوطنين الـ230 ألفا بدأوا يتساءلون عما اذا آن الاوان للتفكير بخياراتهم. وقد يكون معظمهم معارضين ايديولوجيا لاتفاق سلام مع السلطة الفلسطينية، لكنهم واقعيون، ويريدون التخطيط لمستقبلهم، بدلا من ان يستيقظوا يوما ما ليجدوا انفسهم وقد تركوا وحدهم بسبب انسحاب القوات الاسرائيلية.

ويتأثر تفكيرهم، الى حد كبير، بمعرفتهم بأن شارون هو الذي يتفاوض ويقر موقف اسرائيل. وقد كان، اكثر من اي سياسي اسرائيلي آخر تقريبا، مسؤولا عن إقامة شبكة المستوطنات. ولكنه كان، ايضا، وزير الدفاع الذي اشرف على هدم المستوطنات في شمال سيناء اوائل سنوات الثمانينات في اعقاب اتفاقيات كامب ديفيد بين اسرائيل ومصر. ومن باب المفارقة ان شارون، الذي يعتبر امل مستوطني الجناح اليميني ومؤيديهم، هو واحد من قلة من الزعماء يمكنه ان يفرض سياسة اخلاء جماعي اذا ما تطلب اتفاق سلام ذلك الامر.

اما العامل الآخر الذي يقلق المستوطنين فهو الجدار الامني الذي يصمم شارون على اقامته بين اسرائيل والضفة الغربية. وقد ركز كثير من الجدل حول الجدار على الكيفية التي سيعزل ويقسم بها الفلسطينيين، ولكنه، ايضا، يلحق الضرر بالمستوطنين.

وعلى الرغم من مخططي المكائد المتعلقة برسم الجدار، فان معظم مستوطنات الضفة الغربية تجد نفسها في الجانب الخاطئ من هذا الحاجز الجديد. واذا ما اصبح هذا الجدار، كما يتوقع كثيرون، اساس حدود سياسية مستقبلية بين اسرائيل ودولة فلسطينية، فانه سيتعين، بالتالي، اخلاء هذه المستوطنات.

واذا ما كان هذا الامر سيحدث في المستقبل غير البعيد جدا، فانه يبدو ان المستوطنين سيسألون انفسهم: لماذا لا يحدث الآن؟ لماذا لا نخرج من هنا بصيغة منتظمة، ونحصل على تعويض من الحكومة الاسرائيلية، واقامة مستوطنات جديدة داخل اسرائيل، بدلا من الانتظار حتى توقيع اتفاقية، والاضطرار، بالتالي الى التزاحم بالمناكب على البيوت والمدارس والوظائف.

ان الهبوط الاقتصادي في اسرائيل ـ حيث تعاني من اسوأ حالات الركود في تاريخها ـ يؤثر، ايضا، على الرأي العام في اوساط المستوطنين. ان الحكومة التي ارغمت على اعداد ميزانية تقشف، قد قامت، للمرة الاولى، بتقليصات في مجموعة الاعانات التي يتلقاها المستوطنون، وامتيازاتهم الضريبية. ولم يكن كل المستوطنين قد انتقلوا الى الضفة الغربية لاسباب ايديولوجية او تتعلق بما يسمى توحيد وتحرير المناطق. فالكثير منهم ارادوا ان يكونوا قادرين على بناء بيوت كبيرة، والاستمتاع بأسلوب حياة الطبقة الوسطى الذي لا يمكنهم توفير اسبابه في اسرائيل. وبالنسبة لهؤلاء المستوطنين تجعل خسارة هذه الاعانات من العيش في تلك المناطق امرا غير جذاب.

كما ان المستوطنين يفقدون الدعم الشعبي المحدود الذي كانوا يتمتعون به. ويظهر استفتاء تلو آخر ان الجمهور الأوسع لا يدعم المستوطنات، وانه لن يسمح لها بتأخير التوصل الى اتفاق. ان آخر ما يريده المستوطنون، باستثناء المتشددين، ان ينظر اليهم باعتبارهم مخربي السلام.

وعندما كان الفلسطينيون يهاجمونهم خلال السنوات الثلاث الماضية، كان المستوطنون يعزون انفسهم بالاعتقاد بأن حكومة شارون المتشددة ستتولى، في نهاية المطاف، امر الارهاب، وانهم سيواصلون، في غضون ذلك، الاستمتاع بالمزايا الاقتصادية التي كانت قد اقنعت الكثير منهم بالانتقال في المقام الاول. اما الآن فان شارون، الذي ينتمي الى الصقور، هو الذي يبني جدار الفصل، ويتفاوض من اجل التوصل الى اتفاقات بشأن خارطة الطريق، في الوقت الذي ينتزع احد الصقور الاكثر تشددا، وهو وزير المالية بنيامين نتنياهو، بعضا من منافعهم الاقتصادية.

ومن الواضح انه ما من اتفاق سلام يمكن ان يتحقق بدون اخلاء المستوطنات. ولهذا فانه آن الاوان ان تقوم الحكومة الاسرائيلية باعداد خطة عملية، بما في ذلك التعويضات المالية السخية، من اجل مثل هذا الاخلاء. وبينما سيواصل كثير من المستوطنين معارضتهم لكل مفاهيم الرحيل، فان استفتاء الاسبوع الماضي يظهر ان هناك عددا متزايدا من الاشخاص المستعدين للقيام بعملية الاخلاء حتى قبل التوصل الى اتفاق سلام نهائي. ان على الحكومة ان تستثمر هذه الفرصة.

* استاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بن غوريون