الغثائية

TT

قرأت مقالا ماتعا للدكتور عائض القرني بعنوان «الغثائية». يقول: «لقد حذرنا رسولنا ـ صلى الله عليه وسلَّم من (الغثائية) وهي الكثرة الكاثرة مع قلة النفع وانعدام التأثير. فقد اصبحنا أمة تكاثر ومظاهر على حساب المعاني والحقائق. فنحن مشغولون بعدد من تخرج لا بعدد من أبدع. وبعدد من يكتب لا بعدد من يحسن. وبعدد من ينظم لا بعدد من يجيد (...) لقد حرمتنا هذه الغثائية من حسن الانتاج وروعة الابداع (...) صعد العالم الى الفضاء الخارجي وأنزل مراكبه على المريخ ونحن نتباكى على ضياع لعبة السامري ونتسلى بقصص الف ليلة وليلة. لقد اشغلتنا كلمة «كم» عن جملة (كيف) فغرقنا في العدد واهملنا العدة:

عدد الحصى والرمل في تعدادنا... فاذا حسبت وجدتنا اصفارا.

نشرت «الشرق الأوسط» مرة رسالة من غزة عن رجل رزق 70 ابنا وحفيدا من اجل محاربة اسرائيل. ونشرت مع الحديث صورة للرجل وهو مع العائلة على حصيرة، وخيل اليّ ان عائلة من عالمين تفيد في الصراع الوجودي مع اسرائيل اكثر من رجل رزق 5 اولاد لا يستطيع ان يطعمهم ولا ان يرسلهم الى المدرسة ولا ان يجعل منهم آباء لاطفال تتشابه حياتهم في الفقر والفاقة والجهل.

لن يلد الفقر سوى الجهل والعذاب. ولن نستطيع ان نصرف على التقدم والعلم والقوة والتطور والتحصن ما دمنا نصرف كل شيء على الافواه. ولست اطلاقا مع «تحديد النسل» لكنني مع «تحسين النسل». مع اجيال لا تمضي العمر في ساحات المدن ولا تنام في المقابر ولا تموت في مراكب الهجرة غير الشرعية ولا تملأ دوائر المعونة والمساعدة في اوروبا. ليس عيبا أن نفكر او أن نتأمل او أن نتأنى. ليس عارا ولا خطيئة ولا خيانة ان نواجه حاضرنا ونتطلع الى مستقبلنا ونقر بهذا الخراب الذي نحن فيه.

ماذا حدث منذ ان قامت تلك «الكوكبة» بتدمير ابراج اميركا وتكبيدها المليارات كما فاخر الشيخ اسامة بن لادن؟ حدثت اسوأ ثلاثة متغيرات في تاريخنا: حولت اميركا افغانستان الى مزرعة وادخلت اليها اصلاحا وحيدا: محلات التجميل. واحتلت اميركا العراق. وانهارت في فلسطين مقومات السلطة الوطنية فيما كرس ارييل شارون نفسه محاورا وحيدا للبيت الابيض وناطقا مطلقا باسم جميع القوى السياسية في اسرائيل.

ماذا بعد؟ دخلت اميركا الشرق العربي كقوة عسكرية مقيمة، وتمركزت على حدود السعودية وسورية. وبسبب تهديد «الارهاب» العالمي نشرت قواتها في ست دول عربية ونقلت مقر قيادتها من اميركا واوروبا الى قطر.

أما الخسائر التي كبدها 11 سبتمبر للاقتصاد الاميركي فلا تساوي عمليتي احتيال ونصب في شركتين كبريين. وبورصات الغرب تستعيد الآن ما خسرته في مغامرات النصب وليس في برج التجارة. وبدل ان نكبد اميركا الخسائر المالية في الطيران والسياحة بأكثر من مائة مليار، كان يمكن ان تصرف فقط مائة مليون دولار على نقل افغانستان من العصر الحجري وزمن الكهوف الى زمن مياه الشفة والزراعة الآلية. وبمائة مليون اخرى كان يمكن ان ننقلها من جريمة الافيون كدخل «شرعي» وحيد، الى زراعة القمح والبقول. ولو صرف العراق عشر دخله من «النفط مقابل الغذاء» على شراء الادوية لما كان فقد مليونا ونصف المليون طفل. ولو كان صدام حسين يعتمد على الخبراء بدل العراقيين لكان ادرك انه يرمي نفسه وعائلته وبلاده في النفق المسدود الاخير.

حاولت اسرائيل ان تفعل شيئا واحدا حتى الآن: ان تغتال جميع العلماء الذين يتعاونون مع العرب، وكانت عالمة عراقية في طليعة المتهمين في قضية لم يثبت فيها شيء الآن. ولن يحاول احد خفض معدل الولادات او معدل الجهل او معدل الامية. ولن يقف احد في وجه هذه الغثائية العامة التي يتحدث عنها الدكتور القرني، لم تعد ظاهرة عابرة. لقد اصبحت طريقة حياة.