قراءة مبكرة (2 ـ 2)

TT

الحديث هو عن ما فعلته حرب العراق بالمنطقة. حتى الآن، ومنذ اعلان انتهاء العمليات العسكرية في مايو (ايار)، النتائج الاقليمية محدودة الا داخل الدولة المحتلة التي تعيش اكبر تغيير في تاريخها منذ انقلاب قاسم وتغيير الملكية.

ان اكثر الاوراق التي رفعت قبيل الحرب تنبأت بأن العراق كدولة اقليمية مؤثرة سيكون ممرا فكريا، او دبابة عسكرية، لنشر الديمقراطية، وهذا مرهون بالانتصار على نظام صدام.

حسنا، الانتصار جاء في اهون احتمالاته لكن الديمقراطية لا يبدو انها ستنتشر في اي من الحالات المفترضة.

دمقرطة العراق نفسه تبدو عملية صعبة، ان لم تكن مستحيلة في الظروف التي تشير الى انها تزداد سوءا. وقد تستطيع الولايات المتحدة ان تحصد الديمقراطية في العراق ربما بعد 12 عاما لكن ليس بعد 12 شهرا من الانتصار كما كان مفترضا. ستكون اغلى زراعة ديمقراطية في التاريخ حيث تدفع الولايات المتحدة اربعة مليارات دولار شهريا لفرض وجودها، في حين كانت الديكتاتورية تكلف صدام اربعة مليارات في العام كله. السؤال هل لدى الاميركيين المال والصبر معا؟ اشك في ذلك كثيرا.

ومشكلة نشر الديمقراطية ليست محصورة في مناطق الكراهية السنية، الرمادي والفلوجة، بل حتى في الجنوب المحايد وكذلك في الشمال المتحالف مع واشنطن منذ عشر سنوات. فالانتخابات غالبا ستفرز حكاما محليين معادين للولايات المتحدة وموالين لرجال الدين وزعماء العشائر، وهذا يتنافى تماما مع روح الليبرالية الغربية ويضر بالمصالح الاميركية على المدى الطويل. وقد تكون القراءة مبكرة جدا لكن ان استمرت واشنطن عاجزة عن مدننة ودمقرطة العراق فان المشروع الثاني، هو الآخر، سينقلب رأسا على عقب.

فقد توخى بعض المنظرين للمعركة جعل العراق رأس حربة في منطقة صنفت بأنها اسوأ مناطق العالم في انظمتها السياسية، بديكتاتوريتها، وتخلفها، وتصديرها للتطرف. كانت الفكرة، نظريا، جعل بغداد عاصمة الاقليم العربي والاسلامي والتأثير من اجل التغيير.

واذا اخذنا المؤشرات الحالية فانها تدلنا على ان الاحداث ستتغير مستقبلا، حيث ستضطر الولايات المتحدة الى التعاون مع انظمة الاقليم لتثبيت الوضع العراقي، وليس العكس.

وحتى لا اتجاوز طروحات الجانب الآخر لا بد ان اعدد ما يعتبره الاميركيون انجازات سريعة على ارض الميعاد العراقية. ففيها اكبر حرية نشر صحافية في العالم العربي، 170 صحيفة، وأكثر حرية تعبد دينية بعد ان كانت الاغلبية الشيعية محرومة، وصارت ساحة التظاهر الوحيدة في المنطقة ضامنة حرية التعبير، وتتمتع بحرية التجارة بعد ان كانت حكرا على الدولة وازلامها، وغيره.

وهذا كله بالفعل من صناعة جي. غارنر وبريمر وغيرهما من حكام بغداد الاميركيين لكنه لا يخلق الديمقراطية المأمولة. انه يذكرني تماما بما فعله الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد الذي فتح الساحة المغلقة فنبتت في البلاد عشرات الصحف والاحزاب والمنابر، ليكتشف منظرو الدولة انهم يهدون الحكم للاصوليين حيث لا ديمقراطية بعدهم.

من المؤكد ان الولايات المتحدة اختارت العراق لاهداف استراتيجية، ومن الخطأ اعتباره لبنان او صومال آخر. فهي ستبقى فيه الى سنين مقبلة وستكتشف خلالها ان حكم دولة شرق اوسطية مهمة صعبة لا يمكن ان تقارن بالبوسنة او يوغوسلافيا او جنوب افريقيا.