السعودية والولايات المتحدة.. حقائق الواقع

TT

قبل أربع وعشرين ساعة فقط على بث التقرير المشترك بين الكونجرس ومجلس النواب الأمريكي حول هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) والضجة التي لا تزال تتفاعل عن الصفحات الثماني والعشرين المحذوفة من التقرير بطلب من الادارة الأمريكية لما تردد عن علاقتها بالسعودية، نشرت أدارة معلومات الطاقة الأمريكية تقريرا عن واردات الولايات المتحدة من النفط الأجنبي حتى أيار (مايو) المنصرم وأكبر الموردين الى السوق الأمريكية.

السعودية جاءت في المرتبة الأولى، تليها كندا ثم المكسيك. ومع ان الدول الثلاث، التي تنضم اليها أحيانا فنزويلا تتنافس على من يحتل المرتبة الأولى، الا ان الأرقام الأخيرة كانت مختلفة. فحجم الواردات النفطية السعودية الى السوق الأمريكية بلغ في ذلك الشهر مليونين و226 الف برميل يوميا، مرتفعا من مليونين و40 ألف في نيسان (أبريل). والرقم الأخير له دلالة خاصة، اذ ان هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها حجم تدفق النفط السعودي الى السوق الأمريكية الى المليوني برميل يوميا. وكان قد تخطى حاجز المليون لأول مرة في العام 1976، ثم تراجع الى ما دون ذلك في السنوات اللاحقة لأسباب تتعلق بالأسعار، ليعود الى تجاوز حاجز المليون برميل مرة ثانية في العام 1988 ويستمر في التصاعد منذ ذلك الوقت.

معهد البترول الأمريكي يرى في آخر أرقام له قام بنشرها الشهر الماضي ان النفط السعودي حقق نسبة 16.7 في المائة من أجمالي واردات النفط الأجنبي في نيسان، ويمكن للمراقب حساب النسبة في الشهر التالي لتصل الى 17.9في المائة. وفي المقابل يلاحظ ان معدل ازدياد صادرات النفط الكندي والمكسيكي لا ينمو بنسب مرتفعة.

فالصادرات النفطية السعودية من بداية هذا العام وحتى أيار بلغت في المتوسط 1.86 مليون برميل يوميا مقابل 1.49 مليونا لنفس الفترة من العام الماضي، بينما حافظت كندا على نفس المعدل وهو 1.4 مليون برميل يوميا في الشهور الخمسة الأولى من هذا العام مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. أما المكسيك فقد حققت تراجعا قليلا خلال ذات المدى الزمني من 1.5 مليون برميل الى 1.4 مليون.

ويرى عدد من مراقبي السوق النفطية ان التعثر الذي أصاب جهود أعادة النفط العراقي الى الأسواق له ضلع في هذا الوضع. مجلة «نيوز ويك» في عددها الأخير نقلت عن أحد خبراء النفط الأوروبيين قوله انه ما دام النفط العراقي غائبا عن الأسواق، فمن الأفضل عدم العبث مع دولة لها القدرة على انتاج 10 ملايين برميل يوميا. والاشارة طبعا الى السعودية وذيول الاتهامات حول هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

النشرات النفطية المتخصصة تحمل الكثير عن أوضاع صناعة النفط العراقية وآخرها تقرير أعده سلاح المهندسين الأمريكي كخلفية للشركات الراغبة في العمل. ان أعمال النهب والسلب في فترة الشهرين التي أعقبت دخول القوات الأمريكية العراق كلفت 943 مليون دولار اضافة الى 475 مليونا هي تكلفة آثار الحرب وان جانبي اصلاح المرافق النفطية والتشغيل تحتاج كل منهما الى نصف مليار دولار، ومع انه كان يفترض طرح العطاءات والبدء الشهر الماضي، الا انه من الواضح انه لن يتم البدء في هذين الجانبين قبل نهاية هذا العام بشهر أو شهرين على أحسن الفروض، وأن عمليات الاصلاح هذه تحتاج الى فترة عامين يمكن أن تصل الى ثلاثة أعوام. وفي هذه الأثناء يمكن لحجم انتاج النفط العراقي أن يزيد بصورة تدريجية ليتجاوز المليوني برميل مطلع العام المقبل، هذا اذا توفر الأمن، الامداد الكهربائي والتمويل.

الفكرة ليست في ان السعودية تستفيد من غياب النفط العراقي، وانما في قدرة الصناعة النفطية السعودية على البقاء في حلبة المنافسة مع مختلف المنتجين، وهو ما يظهر في تفوقها على منافسيها المباشرين في السوق الأمريكية كندا والمكسيك مع الأخذ في الاعتبار القرب الجغرافي بينهما وان العلاقات السياسية بين البلدين، والولايات المتحدة لا تمر بحالة من التوتر مثلما هو الحال مع السعودية في الوقت الراهن.

وهذه النقطة من الأهمية بمكان، فأحد أهداف مجموعة المحافظين الجدد من غزو العراق توفير بديل للسعودية يمكن للولايات المتحدة الاعتماد عليه في ما يتعلق بامدادات النفط. وهذا أمر ينبغي نسيانه في الوقت الراهن على الأقل كما جاء في مقال «نيوز ويك» المشار اليه.

مصلحة العراق تكمن في تسخير ثروته لخدمة شعبه، لا لأحلام المحافظين الجدد، وهي لن تخدم شعب العراق ولا غيره ما لم تقم على أساس اقتصادي وتجاري سليم، والسوق في النهاية مفتوحة وتحكمها منافسة تقوم على ضمان الامدادات ومرونة الأسعار التي تستند الى بنية أساسية قادرة على الاستجابة للمتغيرات. العلاقة السعودية الأمريكية صمدت أكثر من ستة عقود من الزمان بسبب استنادها الى مصالح متبادلة، لا على شعارات أو تهويمات عاطفية.

في الأول من هذا الشهر نشر أنطوني كوردسمان من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطون وصاحب كتابين عن السعودية على مشارف القرن الحادي والعشرين ورقة بعنوان: السعودية وتحدي الارهاب، تناول فيها الهجمة الاعلامية الأخيرة التي توكأت على الصفحات المحذوفة من تقرير الكونجرس كما تحدث عن الخلط والتخليط عند تناول هذا الموضوع أما بسبب الجهل أو لنيات مبيتة. ووصف الحملة انها تختزل مواجهة الحرب على الارهاب في السعودية وكأنها الوحيدة المسؤولة عن تمويل تنظيم «القاعدة»، كما تجمع كل السعودية بشعبها وحكومتها في سلة واحدة ، وتتجاهل في ذات الوقت قضايا أخرى حقيقية تحتاج الى تعامل عقلاني من الاصلاح في المناهج التعليمية الى النمو السكاني بكل ما يعنيه من حاجة لتوفير فرص العمل والخدمات، وانها بظروفها الخاصة، فان السعودية تحتاج الى عمليات اصلاحية متدرجة، وان المطلوب حثها على المضي بعزم في هذا الطريق وتسريع وتيرة الاصلاح ما أمكن بدلا من الدعوات الى ثورة ديمقراطية تقوم بين ليلة وضحاها، كما ينادي المحافظون الجدد، وهي دعوة تجعلهم حلفاء لبن لادن في حقيقة الأمر، كما انها تساعد على أن يصبح صراع الحضارات حقيقة واقعة.

خلاصة الأمر ان الواقع الفعلي أهم من الحملات الاعلامية، وانه رغم طغيان الأصوات المعادية، الا ان هناك أصواتا أخرى أمينة مع نفسها يمكن أن ترتفع، وان الاصلاح ضرورة داخلية قبل أي شيء، الأمر الذي يجعل من الضروري حمايته بصورة مؤسسية والدفع باتجاه ايجاد قاعدة شعبية له.