العراق: بريمر باشا لا يمنح الشرعية

TT

اذا سارت الامور على ما يرام فسيشكل في العراق مجلس جديد للوزراء خلال الايام القليلة القادمة. وسيتولى مجلس الحكم الانتقالي اختيار المجلس الجديد، الذي سيكون مسؤولا عن مسؤولية اعادة بناء الحد الادنى من بنية الدولة الاساسية قبل ان يستعيد العراق حق الممارسة الكاملة لسيادته القومية.

ويمكن القول ان السرعة التي يتم فيها توجيه العراق نحو الحكم الذاتي هي اشارة على شعور التحالف الاميركي البريطاني، بالقلق بضرورة تقليل مشاركته المباشرة في البلد الذي دمرته الحرب.

فبعد الحرب العالمية الثانية استغرق الامر 6 سنوات للسماح لالمانيا الغربية واليابان بالحكم الذاتي. وفي كوريا الجنوبية، ظلت الولايات المتحدة تسيطر سيطرة فعلية على البلاد لمدة عشر سنوات تقريبا.

وتوجد عدة اسباب لاختلاف الوضع العراقي، اهمها انه في المانيا النازية واليابان العسكرية، استمتعت الانظمة الحاكمة بشعبية هامة، بينما نظام حزب البعث في العراق كان مرفوضا منذ امد طويل من الاغلبية العظمى من ابناء الشعب. وفي العراق، حارب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وهزم صدام حسين وعصابته، وليس الشعب او حتى القوات المسلحة العراقية. لقد لعب الشعب والجيش الدور الرئيسي في ضمان هزيمة صدام حسين عندما رفض القتال من اجل الطاغية.

وبالرغم من ذلك، فإن نقل السلطة المتسرع الى حكومة عراقية يمكن ان يكون مخاطرة بالنسبة لكل من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وللشعب العراقي. ويرجع ذلك الى ضرورة اعادة بناء بنية الدولة العراقي منذ البداية في وقت تفتقر فيه البلاد الي جيش او قوة شرطة لفرض قرارات السلطة الوطنية الجديدة. ويمكن لاي حكومة جديدة ان تجد نفسها معزولة في الوقت الذي تنشأ فيه سلطات محلية وقبلية في جميع انحاء البلاد (حدث هذا في افغانستان حيث لا تسيطر حكومة الرئيس حميد كرزاي حتى على العاصمة كابل)

ولابد من توضيح نقطة في هذا المجال: لا يجب ان يجد العراق نفسه تحت سيطرة نظام استبدادي وحشي مرة اخرى.

ففي ظل نظام البعث كان من المفروض ان الحكومة قوية لان المجتمع ضعيف. وفي التحليل النهائي، فلا يمكن لمجتمع ضعيف ان يحتفظ بحكومة قوية. لقد اتضحت نقطة الضعف الاساسية لنظام صدام حسين عندما فشل في تحقيق الهدف الاساسي لاي نظام، اي حماية البلاد من حرب غير متكافئة.

وبالتالي، فربما يكون من ضمن الاحتياجات العلاجية للشعب العراقي التعرض لحكومة ضعيفة يمكن خلالها للمجتمع العراقي اعادة بناء قوته.

ان الوسيلة الوحيدة لاستعادة التوازن هي تنظيم انتخابات حرة وعادلة في اقرب وقت ممكن، ان عقد مثل هذه الانتخابات يجب ان يكون اول واهم مهام مجلس الوزراء الجديد، غير ان عقد الانتخابات يتطلب وجود اطر دستورية.

وبكلمة اخرى فإن العراق يحتاج الى دستور جديد، وقد ظهرت عدة مسودات لدستور جديد، تمثل ارادة عدة تيارات سياسية مختلفة.

ويجب على مجلس الحكم الانتقالي نشر هذه المسودات وتنظيم حوار شعبي حول مبادئ الدستور الجديد، ويمكن ان تتبع ذلك جمعية تأسيسية في اوائل العام القادم وتمهيد الطريق لانتخابات برلمانية قبل نهاية 2004.

هناك، بالطبع، من يدعي ان العراقيين ليسوا على استعداد لنظام تعدادي وان اي انتخابات حرة يمكن ان تؤكد الانقسامات العرقية واللغوية والدينية او تؤدي الى وصول عناصر متطرفة او دهماء من بين كل مجتمع الى السلطة.

غير ان الخوف ليس قاعدة جيدة لسياسات جادة، ويجب على الولايات المتحدة وحلفائها الثقة بالعملية الديمقراطية والسماح لشعب العراق بالتعبير عن وجهات نظره بحرية كاملة. ولايوجد سبب يدفع اغلبية العراقيين الى ادخال وطنهم في مرحلة من الغموض بانتخاب افراد واحزاب ذات برامج وايديولوجيات متطرفة.

ان النظرة المتأنية الى الاحزاب والجماعات العراقية الموجودة على الساحة حاليا، وكلها ممثلة في مجلس الحكم الانتقالي، تكشف عن عدم وجود برامج متطرفة لديها، وبالنسبة لمجتمع خرج من نصف قرن من الاستبداد والرعب، فإن العراق قد اظهر درجة تثير الدهشة من الحداثة. فلم تقع الا حوادث قتل انتقامي محدودة ضد المتعاونين مع البعث، ولم تحدث عمليات استيلاء واسعة النطاق على الملكية الخاصة (كما حدث في ايران عندما وصل الملالي للسلطة عام 1979)، كما لم تظهر جيوش خاصة. وطبقا لاي مستوى بالنسبة لبلد خرج لتوه من حرب اساسية بالاضافة الى تغيير النظام، فإن العراق اليوم هو اكثر هدوءا نسبيا. ويرجع الفضل في ذلك الى الطبيعة المتمدنة للشعب العراقي نفسه الذين تمكنوا من الاستفادة واستخدام شبكات السلطة التقليدية، مثل شيوخ القرى ورؤساء القبائل وعلماء الدين، لملء الفراغ الناجم عن تفكك النظام.

وربما اصبحت سلسلة الهجمات ضد القوات الاميركية مثار اهتمام الصحافة، ولكن ذلك لا يغير الصورة الشاملة في العراق. ففي المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية استمرت الهجمات ضد قوات الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة لاكثر من عام قبل ان تتلاشى).

ومن المهم طمأنة الشعب العراقي عن طريق تقديم برنامج زمني واقعي لاعداد دستور جديد وعقد الانتخابات. ويجب على مجلس الحكم الانتقالي ان يجعل الشفافية شعاره، وان يضع نهاية لتقليد طويل من القرارات السرية تهدف الى بقاء الشعب في الظلام.

ومنذ تشكيل العراق كدولة 1921/1922، لم يستطع حل المشكلة الاساسية وهي مشكلة الشرعية. فأول نظام في البلد فرضته بريطانيا التي استوردت ملكا، واقامت جيشا واعدت صفوة عثمانية بصفة اساسية للدولة الجديدة. كما ان النظام الذي اعقب سقوط الملكية في عام 1958 فقد كان اقل شرعية لانه اعتمد على مجموعة صغيرة من المتآمرين تؤيدهم هذه القوة الاجنبية او تلك.

واليوم فقد اصبح لدى العراق اول فرصة لتأسيس نظام يستمتع بشرعية حقيقية، وهذه الشرعية لا تأتي من بريمر باشا، بل هي تأتي من شعب العراق، الذين يعبرون عن امانيهم في انتخابات حرة تحت اشراف دولي. واذا حدث ذلك فإن العراق يمكن ان يصبح حدثا ناجحا اخر بالنسبة للولايات المتحدة، وينضم لقائمة الدول التي تم نشر الديمقراطية فيها بمساعدة الولايات المتحدة.