عراق ما بعد الحرب.. الدرب الصعب

TT

تظهر المعطيات التي نشرها البنتاجون، بان 211 عسكريا اميركيا لقوا حتفهم في العراق، منذ بدء العملية العسكرية وحتى اول مايو، حين اعلن الرئيس بوش انتهاء العمليات القتالية، كما قتل حوالي 80 عسكريا آخرين بعد الاول من ايار، في غضون اكثر من شهرين. ولا تشمل هذه الارقام الجنود الذين توفوا متأثرين بجروحهم في المستشفيات. كما يزداد عدد الجرحى.

فهل يمكن ان تراود احدا الآمال في توقف الهجمات على المحتلين في العراق؟

هذا الاحتمال بعيد، علما بان تشكيل حكومة عراقية مستقرة قادرة على تحمل المسؤولية عن احلال الامن والنظام هو شيء بعيد جدا ايضا، ولربما ستشكل بعد اشهر، وربما بعد اعوام. بينما بدأت في البلاد عمليات تدل على انبثاق اخطار جديدة وجدية.

اول الاخطار هو تقوية الاتجاه الراديكالي الديني، الذي غالبا ما يتجلى بأشكال متطرفة. وبعد الاطاحة بنظام صدام حسين اصبح الشيعة، الذين يشكلون، حسب بعض التقديرات، اكثر من نصف سكان البلاد، عنصرا ذا وزن اكبر في الحياة السياسية الداخلية للبلاد. ومن الصعب التكهن بتطور الاحداث لاحقا، لكن الكثير من الامور يبعث على القلق اليوم. فمنذ فترة وجيزة توجه اثنان من زعماء الشيعة هما الشيخ محمد الفارتوي ومتقدى الصدر الى المسيحيين في البلاد (يبلغ عددهم حوالي المليون نسمة) بطلب الخضوع لاحكام الشريعة الاسلامية. وفي الجنوب كثرت حوادث نهب المحلات التجارية التي يمتلكها مسيحيون.

لكن نحمد لله ان اشتباكات بين الشيعة والسنة لم تقع. بيد ان هناك امورا تبعث على القلق، مثل ابداء المقاومة لسلطات الاحتلال في المناطق التي يقطن فيها السنة بصورة رئيسية. كما ان مجلس الحكم الانتقالي الذي تشكل لتوه، والمؤلف من 25 شخصية، يضم عددا من الشيعة اكثر من السنة. فهل تمضي الامور بشكل ربما يبعث على التصور ـ وانا لا اتهم احدا ـ بان منظمي المجلس قد عملوا على زرع «قنبلة موقوتة» بسبب عدم تبصرهم بالامور؟

قد يريد الشيعة ممارسة حكم ذاتي واسع في جنوب العراق. ويرى البعض بان هذا سيتحقق في اطار نظام الدولة الاتحادي ـ ففي الشمال سيكون الحكم الذاتي للاكراد، وفي الجنوب للشيعة. وانا اعتقد بان نظام الدولة هذا لن يساعد على استقرار الوضع في البلاد، اذا لم يبق نظام الدولة العراقية الموحدة. وفيما يخص الاكراد فان القضية واضحة: انهم، لكونهم غير عرب، ناضلوا على مدى اعوام طويلة، وبضمن ذلك بالكفاح المسلح، من اجل اقامة كيان دولة خاص بهم ـ خارج العراق او في داخله. لكن ما هي حال الشيعة؟ اذا ما قام كيان الدولة الخاص بهم فانه سيقوم على اساس الخلافات الدينية البحتة بين الشيعة والسنة. فهل يستحق الامر تكريس انقسام عرب العراق الى فئتين؟ وثانيا، ان الشيعة في العراق لا يقطنون في جنوب البلاد فقط، بل انهم يعيشون في بغداد ايضا. كما ان الكثير من اهل السنة يعيشون في البصرة والمدن والمراكز السكنية الاخرى في جنوب العراق. فما العمل في وضع التقسيم هذا؟

وفي حالة اقامة كيان دولة شيعي في العراق، فانه سيكون امتدادا لايران الشيعية، ويشكل معها «اواني مستطرقة» بالضرورة. وآخذين بعين الاعتبار فرز القوى المعقد في ايران، فان ذلك يمكن ان يؤدي الى نتيجتين: في حالة قيام نظام دولة شيعي عراقي ديمقراطي الاتجاه (وهذا الاحتمال ضعيف في الظروف الراهنة والمستقبل القريب) سيؤثر ذلك، بلا ريب، تأثيرا ايجابيا على الوضع السياسي الداخلي في ايران. لكن الاحتمال الاكبر هو تقوية نفوذ الشيعة الراديكاليين العراقيين، وعندئذ سيكون «المدّ» في الجانب الديني في ايران.

ويعتقد البعض بان حل المشكلة ممكن وفقا لـ«النموذج اللبناني»، وبعبارة اخرى، عن طريق احلال التركيبة الطائفية في عراق ما بعد الحرب. وانا لا اعتقد بان هذا الطرح للمسألة مناسب. فاذا ما تم الاخذ بالنموذج اللبناني، بصورة موازية، يجب ان تعطى الى الشيعة العراقيين «تلقائيا» مناصب رفيعة في الدولة، مثل منصب رئيس الجمهورية، والقائد العام للقوات المسلحة، وهلمجرا. ولكن هذا ليس عادلا، كما انه لدى الاخذ بالاعتبار العقلية العراقية والتقاليد العراقية، فان ذلك لن يساعد ابدا على اشاعة الاستقرار في البلاد.

السبيل الوحيد لتفادي ذلك كله هو اجراء التقارب، بصورة طبيعية، مع الاحتفاظ بالاصالة من جانب، بين السنة والشيعة والمسيحيين في العراق، ومن جانب آخر بين العرب العراقيين والاكراد العراقيين، وفي نهاية المطاف تشكيل صورة موحدة للمواطن العراقي.

ويتعين على العراق ان يقطع شوطا بعيدا في الدرب بعد الاحاطة بنظام صدام حسين. ونحن نأمل في ان يمضي العراق على هذا الدرب الصعب بالرغم من كل شيء.

* رئيس وزراء روسي سابق