في مدن الإسمنت.. أحلم بمحرك عربي مثل أوساهيرا؟!

TT

توسعت المدينة العربية توسعا هائلا في العقدين الاخيرين. وهي لم تكف عن التغير قبل هذا التاريخ، غير ان العشرين عاما الاخيرة شهدت تغييرا ملحوظا في ملامحها. وهنا يمكن وضع المدينة العربية في دول مجلس التعاون الخليجي في الصدارة، من حيث حجم التوسع العمراني والسكاني، وكذلك شكل العمارة ومن ثم الملامح. حتى ان زائرها في مطلع الثمانينات قد لا يتعرف اليوم بسهولة على شوارعها وبناياتها. وفي بعض مدن الخليج العربي كان هذا التوسع مطلبا ملحا لترسيخ شكل الدولة الحديثة ومتطلباتها. وقد شاركت الدول والقطاع الخاص في إحداث هذه المتغيرات التي كان لها اثر واضح كذلك على العلاقات الاجتماعية لسكان هذه المدن.

من جانب الدولة فان تشييد مباني الادارة الحديثة كان ضد اولوياتها، وكذلك المساكن الاهلية اللائقة بمرحلة ما بعد ظهور البترول والنمو السكاني. وهي خطوة حميدة بلا شك، وان كان قد جرى التخلص من الكثير من العمارة العربية القديمة والتي كان يفترض المحافظة عليها، وزحزحة المباني الحديثة الى مواقع اخرى ضد النطاق الاداري للمدينة. اما القطاع الخاص فقد ركز على الاستثمار السريع في العقار، لا سيما في نموذج السوق الحديث المتكامل. اما المشاريع الصناعية ونقل التكنولوجيا وتوظيفها وصولا الى جعلها ذاتية، فقد كانت قليلة جدا قياسا الى حجم رأس المال المتوافر. حتى بدا هذا القطاع غير معني كثيرا بمثل هذه المشروعات الوطنية والقومية. وبمعنى آخر فان هذا القطاع وفي غياب رؤية متكاملة لدور التصنيع في بناء ومتانة الدولة الحديثة ومتطلباتها، كان يلجأ في اغلب الاحيان الى السهل من المشاريع ذات العائد السريع والربحية الكبيرة، مثل بناء مراكز التسوق والفنادق والابراج السكنية. حتى انه لم يعد سرا ان احد الفنادق قد بلغت تكلفة بنائه حوالي ملياري دولار؟! وهو مبلغ كبير جدا في دنيا الصناعة.

والسؤال المشروع كما ارى، هو لماذا لا يأبه رأس المال العربي بالصناعة والتكنولوجيا اللازمة لها والمخرجات (المنتوج) التي تعطيها؟! صحيح ان الدولة تتحمل قسطا من المسؤولية، لكننا لا نعفي رأس المال الوطني الخاص من المسؤولية. نظرة سريعة لأي مشروع صناعي ـ بما في ذلك الصناعة الحربية ـ في اية دولة من الدول المصنعة، تؤكد ما ذهبنا اليه من ان القطاع الخاص هو من يأخذ المبادرات عادة. واعتقد ان شريحة كبيرة من رجال الاعمال العرب حريصة على حضور المعارض الدولية للتعاقد على منتجات اقرانها من رجال الاعمال الغربيين والشرقيين على حد سواء!! مكتفية بنقل المصنوع والمساعدة في استهلاكه في بلدانها. ولم يدفعهم ذلك ـ الا قلة قليلة جدا ـ الى تقليد رجال الصناعة والاعمال والمنتجين واقامة وحدات ومشاريع صناعية منتجة. على سبيل الحلم والمثال لا غير، فان صاحب رأس مال عربي مهما بلغت اصول امواله فانه لن يستطيع بمفرده ان يؤسس لصناعة وطنية للطائرات! يمكن لملياردير عربي ممن تصدروا القائمة العالمية لاغنى الرجال في العالم ان يقيم بمفرده مصنعا للسيارات ربما، لكن ليس المطلوب مخاطرة رجل واحد، فالشركات الكبرى يؤسسها رأس مال متعاضد ونحن لا نشك في ان بضعة رجال من مليارديرات العرب قادرون على تحقيق احلام امة بأكملها في الصناعة. والامر سيكون بالتأكيد افضل لو ان القطاع الخاص كله قد اتجه نحو الصناعة في المرحلة الحالية. اعرف ان صناعة «العلكة» و«البسكويت» تدخل في حقل الصناعة!! لكنني بالتأكيد لا اعني ذلك. فنحن ما زلنا بعيدين كل البعد عن صناعة الآلة، المحرك، الحاسوب، وسائل الاتصالات الحديثة.. الخ.

لا بد ان ثمة خللا ما، وهذا الخلل يصبح محزنا جدا قياسا الى حجم رأس المال المستثمر في كل شيء الا في المجالات التي تسهم اسهاما كبيرا في نهضة العرب وقوتهم! وانه لأمر محير بالفعل. فهل هو خطأ الحكومات ام خطأ القطاع الخاص الذي اخذ فرصته على نحو شبه كامل في العديد من الدول العربية. بيد انه في الحقيقة فضل على الدوام السهل او ما يسمى بالمشاريع الطفيلية التي قد تحرك السوق لكنها بالتأكيد لن تساهم في بناء اقتصاد حقيقي. هل ثمة خطوط حمر على دخول العرب عصر الصناعة والتكنولوجيا؟! انا شخصيا لا اظن، وان كنت اعتقد ايضا ان الامم المنتجة والمصنعة من امريكا وحتى الصين مرورا بأوروبا يسرها دوام هذا الحال، لانها ببساطة ستضمن اسواقا استهلاكية لبضائعها. ان استسهال رأس المال العربي الوصول الى مراكز الانتاج ومن ثم استيراد المنتجات اللازمة لبلدان رأس المال مقابل عوائد سريعة، قاد الى هذا «الخمول» القومي في الصناعة. وقد يقول قائل بأن نقل التكنولوجيا ليس امرا هينا ناهيك من توطينها او التوصل اليها محليا، وهو امر مشكوك في صحته الى حد بعيد، لكننا يمكن ان نرد على ذلك بسهولة، وهذه المرة عبر اليابان نفسها، التي هي اليوم من اكبر البلدان الصناعية في العالم، ان لم تكن اكبرها على الاطلاق. وهي تكاد تفتقر تماما لكل المواد الاولية اللازمة لأي صناعة. فاليابان قصة عجيبة ومدهشة في التاريخ الانساني، وليست فقط مجرد دولة صناعية. وقد بدأها ـ اي المعجزة اليابانية ـ طالب بعثة اسمه تاكيو اوساهيرا تعلم في جامعة «هامبورغ» الميكانيكا العلمية، وكان هذا الطالب قد اقتنع وهو في اوروبا بان سر قوة اوروبا يكمن في المحرك. بل هو سر الصناعة كلها. ويورد د. محمود سفر في كتاب دراسات في البناء الحضاري: كتاب الامة، قصة اوساهيرا وهو يدرس تجربة التقدم اليابانية، على انها تلخيص مؤثر في الواقع للروح اليابانية، وهو ما نود ان تسود مجتمعاتنا، سواء طلبة العلم او اصحاب رأس المال. فقد مل اوساهيرا من الكتب النظرية وركز على المحرك، ونعثر على القصة كذلك في كتاب «في اعماق التجربة اليابانية» للدكتور نعمان السامرائي، وهي جديرة بالسرد «فقد اطلع في الصحف على اعلان عن معرض لمحركات ايطالية. اخذ راتبه الشهري ليشتري محركا صغيرا «قوة حصانين» ودفع فيه مرتبه كاملا، وحمل هذه الدرة التي كان يحلم بها، ووضع المحرك في غرفته وراح يتأمله كأنه ينظر الى تاج المجوهرات، وراح يحدث نفسه قائلا: هنا يكمن سر قوة اوروبا، ومتى استطعت ان اصنع مثله، فسيتغير اتجاه تاريخ اليابان.

ويضيف «خلال التأمل لهذا المعشوق قرر ان يفككه ثم يعيد تركيبه، ثم يحاول ان يشغله، فان حصل ذلك فقد كشف السر، لم يضع الوقت، احضر مجموعة من الورق، وكلما فك قطعة رسمها على ورقة واعطاها رقما خاصا، حتى اذا انتهى من التفكيك اعاد التركيب ثم شغله، فلما اشتغل، يقول اساهيرا، كاد قلبي يقف من الفرح، كلفه ذلك ثلاثة ايام من العمل، كان يتناول خلالها وجبة واحدة يوميا، ولا ينام الا القليل، هرول الطالب وقابل رئيس البعثة ـ وهو رجل دين ـ كما فعلت مصر حين ارسلت الشيخ رفاعة الطهطاوي مشرفا على بعثاتها».

لقد كان جواب رجل الدين اعجب واغرب من تجربة الطالب الفذة، قال له: «سآتيك بمحرك متعطل، وعليك ان تفككه اولا، لتكتشف مكان العطل، ثم تصلحه بحيث يشتغل. هنا كانت التجربة اقسى. فكلفت اوساهيرا العمل عشرة ايام حتى حدد مكان العطل».

وظل اوساهيرا يعمل في الواقع خمس عشرة ساعة يوميا، وقد وصل الخبر الى الامبراطور الذي سر بالتأكيد فأمر له بخمسة آلاف جنيه ذهبا اشترى بها محركات وادوات، وعندما عاد الى بلاده واراد الامبراطور «الميكادو» ان يراه جاء الرد عجيبا: لا استحق مقابلته الا بعد ان انشئ مصنع محركات! وقد قضى تسع سنوات متواصلة في العمل، صنع خلالها عشرة محركات ثم وضعها لاحقا في احدى قاعات قصر الامبراطور ثم شغلها اوساهيرا وعندما دخل الميكادو القاعة انحنى الكل تحية فابتسم وقال «هذه اعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة»! يقول اوساهيرا: وبعد ذلك نمت عشر ساعات كاملة لاول مرة منذ خمس عشرة سنة! لكن اليابان كلها كانت قد استيقظت بالتأكيد على عصر جديد. وهذا العصر هو ما نريده لنا، خاصة في مجلس التعاون الخليجي، حيث لا تنقصنا الامكانات ولا رأس المال ولا الانسان. فقط «اوساهيرا» عربي! ولا اعتقد بأننا لا نملك اوساهيرا في جامعاتنا، وكذلك اصحاب رأس المال الذين يبنون مصانع للمحركات.

جميل ان تفكر دولنا في زيادة مساحة المدن وتعميرها، وفتح الحدود السياحية والاستثمار، ومن القوانين اللازمة لاقامة مناطق حرة على غرار ما حدث في دبي وغيرها، لكن الاجمل ان تأخذ الدول المبادرة بما لديها من امكانات هائلة، لخلق صناعة وطنية مشتركة، على ان تتدخل الدولة في البنية الاساسية فقط كتوفير الارض اللازمة، ثم يطلق رأس المال الخاص للاستثمار في هذه المشاريع الحيوية، على ان ترتبط بالجامعات والمراكز العلمية. اما المصارف فعليها واجب من العيار الثقيل، وذلك عبر ضخ الاموال في المشاريع الصناعية وتسهيلات كبيرة.

ولا اظن ان العقول القادرة والمبدعة تنقصنا، وعموما فالوطن العربي مليء بهذه العقول التي يهاجر اغلبها الى الغرب لعدم وجود من يستوعبها. ومثل هذه المشروعات تحد من نزيف هذه العقول نحو الخارج. وهناك دول مثل امريكا ما زالت تعتمد اعتمادا كبيرا على الهجرة، واخيرا تعاقدت المانيا مع عدد كبير من مهندسي الكومبيوتر الهنود، ومثلها بالطبع بريطانيا وفرنسا وايطاليا.

اننا في الحقيقة نحيي أمة بأكملها، ونصون عقولا وطنية عربية تهاجر كل يوم. ومرة اخرى ليسمح لي اصحاب رؤوس الاموال الكبيرة، فبناء الاسواق والابراج والفنادق وناطحات السحاب ومجالات الترفيه، كل هذا حسن، لكن ألم يحن الوقت بعد للتركيز على المشاريع الصناعية؟ خاصة ان كل ما كان يطلق عليه في السابق الصناعات الثقيلة اضحى اليوم من الصناعات الخفيفة جدا، فآخر قمر صناعي تم تصنيعه في العالم لا يتعدى وزنه الـ 6 كيلوغرامات؟! اتمنى ان يصار الى مدينة صناعية او مدينة تكنولوجيا عربية في منطقة الخليج العربي على غرار المدن الحرة، التي تستفيد الشركات العالمية منها اكثر مما نستفيد نحن. على ان يكون هناك توجه نحو بناء قاعدة علمية وصناعية مشتركة، لا احمل رأس المال الخاص وحده المسؤولية، لكنها مسؤولية مشتركة. الدولة تخطط ورأس المال يستثمر. فهل يتحقق الحلم في صناعات عربية خالصة تغزو الاسواق العالمية؟ وهل يقف مسلسل هروب العقول العربية ومعها رؤوس الاموال الى الخارج؟! هل احلم بمحرك عربي مثل اوساهيرا؟!