«هبّات» السلام الباردة... والساخنة

TT

من الطبيعي ان يحرص المتفاوضون على توفير كل فرص النجاح لمفاوضاتهم. وان يخففوا ما امكن من الآمال المفرطة او المبتسرة عند الجماهير المنتظرة، بقلق مفهوم، حصيلة ما هو في واقع الأمر «حرب»... ولكن من نوع آخر.

ونفهم ان المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية الجارية حالياً في اميركا تتصل بأحد اعقد النزاعات الدولية المعاصرة واخطرها واطولها. ثم ان عنصر الثقة بين طرفيها، كما هو معروف، وصل الى الحضيض في غير مناسبة. وإذا تمكن الطرفان خلال الايام القليلة المقبلة من تحقيق «اختراق» جدي يذلل العقبات التي نسفت مصداقية العملية التفاوضية، وهددت جدياً بنسف مسار السلام برمته مراراً، فإن الحرص على السريّة قد يكون هذه المرة في محله الصحيح.... على غير العادة.

لا شك في ان المفاوض الفلسطيني بالمقارنة مع غريمه الاسرائيلي هو الطرف الاضعف استراتيجياً. ولكن عليه ان يتذكر انه بفضل قوة الدفع التي خلقتها «انتفاضة الاقصى» يأتي ولديه ما يفاوض بل ويقايض عليه او يضغط به. وصحيح ان المفاوض الاسرائيلي هو الاقوى استراتيجياً، لكنه يجد نفسه محشوراً في زاوية، وسيتحمل وحده امام ناخبيه من الاسرائيليين المعتدلين ودعاة السلام.. تبعات التفريط بآخر فرصة لتحقيق صفقة يحافظ فيها مع الغريم الجالس امامه عبر الطاولة على ما يكفي لاعتباره تسوية قليلة الاجحاف بحق الفريقين.

من جهة ثانية، المنطق يقول ان اي تسوية لن ترضي الجميع في الشارعين الاسرائيلي والفلسطيني. وسيظل الشعور الفلسطيني بالغبن اشد لأن الراعي الاميركي للعملية التفاوضية لم يكن في اي يوم من الأيام على مسافة واحدة من الاسرائيليين والفلسطينيين. غير ان علينا تذكر ان التوراتيين المتعصبين، الذين تعاملوا مع البشرية جمعاء من منطلق ان اليهود شعب خاص «مختار» يحق له ما لا يحق لغيره، واستخفوا بإنسانية كل من ليس منهم، طمعوا دائماً بإلغاء الطرف الآخر كلياً. وعليه إذا قبل المفاوض الاسرائيلي بمعظم المطالب الفلسطينية، فلن يعتبر «كل» الشارع الاسرائيلي نفسه منتصراً.

ثم ان الفلسطينيين، رغم التفاوت في ميزان القوى لغير مصلحتهم، قادرون على تعزيز وضعهم التفاوضي اكثر كلما انطلقوا من قاعدة متماسكة متضامنة تصرّ على الثوابت، لأنهم بذا يصّدرون حالة التأزم الى الطرف الاسرائيلي. والعنصر الحيوي هنا التزام المفاوض الفلسطيني بالزخم الواعي للشارع الوطني الفلسطيني من دون تفريط. وبقاء الفاعليات الفلسطينية سنداً متحركاً وضاعطاً ومتماسكاً.

اما حزب العمل الاسرائيلي الذي سلط فوق رأسه ـ بملء ارادته ـ سيف اليمين فهو يواجه الآن «نارين»: الاولى تمثلها الضغوط الفلسطينية لحل عادل لن يقوم سلام من دونه. والثانية تتمثل في خطر زج اليمين الليكودي ـ اذا استعاد السلطة ـ المجتمع الاسرائيلي كله في دوامة جديدة من العنف الانتحاري العبثي، الذي قد لا تقف حدود عبثيته عند حدود اسرائيل الحالية. وعلى مفاوضيه ان يقرروا امام ضمائرهم وشعبهم اي نار أخف وطأة.