السجن وتجار السلاح

TT

ادخل المسيو جان ـ كريستوف ميتيران سجن لاسانتيه الذي يستضيف كبار المطلوبين ومشاهير المحكومين كالسنيور «كارلوس». ويبدو السجن من الخارج مثل قلعة من القلاع الفرنسية القديمة التي كانت تبنيها «الفرقة الاجنبية» في الصحارى وسوف يتذكر فيه المسيو ميتيران، «الخبير في الشؤون الافريقية»، تلك الروايات التي كتبت عن حياة المحكومين خلف الجدران الطينية العالية خصوصاً في افريقيا.

واضافة الى المسيو ميتيران الابن، يحكم الطوق القضائي حول عنق المسيو شارل باسكوا، وزير الداخلية الكورسيكي الذي طرح نفسه على انه صائد المخالفين والمرتكبين ومعكري طمأنينة فرنسا. وكان باسكوا يقيم هو ايضاً علاقات ودية مع افريقيا من اجل فرنسا. طبعاً من اجل فرنسا. من اجل مَن غير فرنسا؟ وشاعت خلال احدى زياراته للقارة السمراء دعابة تقول ان احد المحاربين القدامى تقدم منه وقال: «لي رجاء خاص لديك وهو ان تنقل تحياتي الى الجنرال ديغول». وردَّ باسكوا قائلاً: «سوف افعل ذلك بالتأكيد. ولكن ليس على الفور!».

واتمنى ان تنتهي قضية المسيو باسكوا هنا. ليس اكراماً له، ولكن لأن وزير داخليتنا السابق المهندس ميشال المر قال مرة في برنامج تلفزيوني ان باسكوا هو الذي علمه العبوس والتجهم في وجه الناس. وقلت في نفسي وانا اصغي الى مثل هذا التصريح، انه اذا كان احد قد اضطر الى التشبه بالمسيو باسكوا، فهل من الضروري ان يعلن ذلك؟

فلنعد الى ارث فرنسوا ميتيران وتراثه: ابنة لقيطة لا يعترف بها الا بعد 18 عاماً وابن يتاجر بالسلاح، وهي تجارة تشبه التجارة بالرق والرقيق. ابيض او خلافه. وقد حاول المسيو ميتيران ان يلطف السمعة عن طريق التبرع للمدارس والمستشفيات، لكن بعض السمعات لا يفيد معها شيء. لا بدَّ من «لاسنتيه» في نهاية المطاف. وانني اتساءل، هل المسألة في فرنسا هي مسألة رجل فاسد استغل مَن وما حوله ليتاجر ببضاعة القتل والموت، ام هي قضية افريقيا في فرنسا، كما يجب ان يطرحها الفرنسيون والقضاء الفرنسي والسياسيون الفرنسيون.

صدرت في العامين الماضيين مجموعة من «المذكرات» التي وضعها مسؤولو افريقيا في الرئاسة الفرنسية. وهي في مجملها مجموعة من الحكايات والطرائف عن فساد المسؤولين الافارقة ومطالبهم الصغيرة وسعيهم وراء الرشاوى. والهدف من تلك المذكرات اعطاء صورة مضحكة ومؤلمة عن حكام افريقيا، بالوقائع والتواريخ، لكن ماذا اذا قرأ المرء تلك الخفايا من زاوية اخرى. ماذا اذا تطلع الى تشجيع فرنسا لذلك النمط الرخو من الضمائر والنموذج السائل للكرامات؟ ماذا اذا تطلعت فرنسا الى وضعها السياسي المتهاوي في افريقيا الآن؟ ألن تجد ان السبب ليس فقط في عقلية المرتزقة لدى بعض المسؤولين الافريقيين، وانما ايضاً بسبب الفرنسيين الذين تعاطوا مع هذا الفراغ الاخلاقي الكامل، وكانوا شركاء مباشرين، اما عن طريق الاهمال وإما عن طريق العمولات، مثل المسيو ميتيران الابن الذي نقل شيئاً من رفات والده الى سجن «لاسانتيه»، بعدما توزع الرفات فوق جثث مستشاريه وفي احضان نسائه.

في المبدأ يبدو دخول جان ـ كريستوف ميتيران الى السجن، فخراً للقانون الفرنسي، لكن في العمق يبدو هناك خط طويل من الفساد، لم يبدأ بالطبع مع عقد الماس الذي لف به جان بوكاسا عنق فاليري جيسكار ديستان وخنق حياته السياسية، وهو لا ينتهي مع تاجر سلاح فاسق وفاسد لا يميزه عن سواه من هذه الطبقة سوى انه ابن رئيس سابق.