تجربة التناوب في المغرب إلى أين؟

TT

حسناً فعلت مؤسسة المدارس الحسنية بالرباط، التي يشرف عليها المفكّر المغربي المرموق علال سيناصر، إذ اختارت موضوعا لندوتها الرمضانية التي نظمتها مساء 15 ديسمبر الماضي تحت عنوان «قيم الإسلام ومساطر الرمضانية».

ويختلف الموضوع بعنوانه الدقيق عن الثنائية المعروفة (الإسلام والديمقراطية)، التي كثيرا ما أثارت اهتمام الفكر العربي والإسلامي منذ مطلع الفكر الإصلاحي النهضوي الحديث، وقد رجعت إلى دائرة الاهتمام في السنوات الأخيرة منذ أصبح المطلب الديمقراطي هما سياسياً وفكرياً ملحاً، وشعاراً يتسابق الجميع على رفعه والاستئثار به.

فالإشكالية التي طرحتها ندوة «المدارس الحسنية» (التي هي بالمناسبة تجربة تربوية متميزة في المغرب)، توجه الحوار في اتجاه تحديد أوجه العلاقة بالإسلام من حيث هو قيم ومعتقدات مطلقة وثابتة، والديمقراطية من حيث هي إجراءات وممارسة وقواعد لإدارة الحقل السياسي، وبذا تقطع الطريق أمام نمطين من الوهم طالما غذّيا المناظرة العربية في الموضوع، أي اختزال الإسلام إلى آيديولوجيا سياسية، أو تحويل الديمقراطية إلى عقيدة فكرية (تعوّض لدى البعض مضمون الدين وغائياته).

وليس من هنا استعراض الحوار الثري والرصين الذي طبع الندوة التي شاركت فيها إلى جانب نخبة من أبرز العلماء والمفكرين، واستأثرت التجربة المغربية بجانب وافر منها لأسباب مفهومة لا تحتاج للتوضيح، وإنما أردنا الانطلاق من أجواء هذه الندوة لرصد بعض تفاعلات الحقل السياسي المغربي، الذي يعرف في أيامنا مؤشرات تحول بارزة تستحق الرصد والاستكناه.

وتتمحور هذه المؤشرات حول تقويم تجربة التناوب والمكاسب التي حققتها، والعوائق المتعددة التي تعترضها، وتأثيراتها المختلفة حول تركيبة الحياة الحزبية بعد مضي ما يناهز السنوات الثلاث على هذه التجربة، منها ما يزيد على السنة في عهد الملك الجديد محمد السادس.

وعندما قدمت للمغرب، كان حديث الساعة يتركز حول حدثين تزامنا هما: رسالة غامضة للفقيه البصري ـ وهو أحد القادة التاريخيين للحركة الاشتراكية ـ لرفيقيه المرحوم عبد الرحيم بوعبيد والوزير الأول الحالي عبد الرحمن اليوسفي تعود لسنة 1974، تضمنت اتهامات خطيرة بضلوع قطبي المعارضة اليسارية أوانها في المحاولة الانقلابية التي دبرها وزير الداخلية السابق الجنرال اوفقير ضد الملك الحسن الثاني عام 1972، والتظاهرات الواسعة التي قامت بها جماعة «العدل والإحسان» المحظورة في التاسع من شهر ديسمبر الحالي، وقد تعرضت لمواجهة حاسمة من قوات الأمن.

ومع أن الحدثين متلازمان من حيث الخلفية والمقصد، إلا أنهما يحيلان إلى جوانب من التحديات التي تعترض تجربة التناوب الراهنة، سواء تعلق الأمر بوضع وواقع الكتلة الحكومية، أو بالتيار الإسلامي الذي غدا يمثل قوة مهمة في الشارع السياسي تختلف التحليلات في تحديد موقعه ووزنه الانتخابي.

فبخصوص الجانب الأول، ولدت رسالة البصري ردود فعل غاضبة لدى قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (الحزب الأول في المغرب الذي ينتمي إليه الوزير الأول اليوسفي)، كان من آثارها اقدام الحكومة على حظر ثلاث صحف أسبوعية من بينها صحيفة «الجورنال» التي أوردت الرسالة، في الوقت التي شنت صحافة الحزب (الاتحاد الاشتراكي والاحداث المغربية وليبراسيون) حملة حادة متواصلة على البصري، اتهمته بتزييف التاريخ، ورمته بأقذع الأوصاف وأقسى التهم.

ومع أن التأويلات قد تباينت كثيرا في تفسير مرامي الرسالة الغامضة التي لم ينكر البصري مضمونها، إلا أنه من المؤكد أنها ليست بعيدة عن أجواء تحضيرات المؤتمر السادس للاتحاد الاشتراكي المقرر في نهاية شهر آذار (مارس) المقبل، الذي سيكون بحسب كل المؤشرات مؤتمرا حاسما في تاريخ هذا الحزب العتيد، الذي يشهد حواراً داخلياً كثيفاً حول تجربته في الحكم يوحي أحيانا باحتمال تصدعه وانقسامه.

فبعض اتجاهات الحزب الموسومة بالراديكالية تشكك في نجاعة تجربة التناوب، وتعتقد أن الحزب فقد الكثير من زخمه النضالي وتأييده الشعبي، ولم يستطع أن يبدع أساليب فعّالة في موقعه الجديد في السلطة، مما سيعرضه للانتكاسة والتراجع. ومن بين هذه الاتجاهات المركزية النقابية التي يشرف عليها نوبير الاموي، والمجموعة المدعاة مجموعة الوفاء للديمقراطية التي رفضت حضور اجتماع اللجنة التحضيرية للمؤتمر المقبل التي التأمت في الأيام الأخيرة.

إلا أن مراقبي الشأن المغربي يؤكدون أن الحزب سيتمكن في نهاية المطاف من استعادة وحدته ولمّ صفوفه، بما له من تجربة طويلة ناجحة في ضبط وتسيير تناقضاته الداخلية التي ليست بالجديدة في حدّ ذاتها.

وحسب شهادة أحد أعضاء الحكومة المقربين لليوسفي، فإن الحزب الآن في وضع تنظيمي أحسن، باعتبار انتفاء ثنائية قيادتي الداخل والخارج التي كثيرا ما عانى منها، بعد رجوع اليوسفي وإمساكه مقاليد الأمر، وهو رجل محترم لدى الجميع ولا شك أنه فوق الشبهات، ويتمتع برصيد أخلاقي وسياسي لا غبار عليه.

ويؤكد محاورنا المذكور أن رسالة البصري كانت لها نتائج إيجابية داخل تركيبة الحزب، إذ قطعت آخر خيط يصله بالحزب، وسمحت بتوثيق عرى وحدته وتضامنه في مواجهة اتهامات تتعرض لرموزه التاريخية «المقدسة».

إلا أن قرار تحريم الصحف الأسبوعية قد ولد في الآن نفسه، ردة فعل سلبية داخل الحقلين السياسي والإعلامي، واعتبر رجوعا للعهد الاستثنائي الذي خرج منه المغرب الذي لم يشهد إجراء مماثلا منذ سنوات طويلة.

ووصلت النقمة إلى الأحزاب الشريكة في الائتلاف الحكومي، وعلى الأخص حزب الاستقلال الذي كتب أمينه العام عباس الفاسي الوزير في الحكومة في صحيفته اليومية «العلم» مقالا احتجاجياً حاداً ضد حظر الصحف المذكورة بعنوان «وهذه الضجة الكبرى علام»، وقد ردّت عليه صحيفة الاتحاد الاشتراكي باتهام الاستقلاليين بممارسة لعبة مزدوجة، تقوم حسب عبارة اليوسفي على «رجل في السلطة ورجل في المعارضة». وليست هذه هي المرة الأولى التي يتهم فيها اليوسفي زملاء في الكتلة الديمقراطية وفي الحكومة بخذله، معبرا عن استيائه إزاء ما تنشره صحيفة «العلم» من انتقادات حادة لسياسة الحكومة. وتطرح هذه الحادثة في ما وراء جانبها الظرفي أسئلة جوهرية حول حقيقة انسجام الائتلاف الحكومي الذي يضم 7 أحزاب تتمحور حول تشكيلات الكتلة الديمقراطية (الاتحاد الاشتراكي والاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية) وأحزاب كتلة الوسط (التجمع الوطني للأحرار والحركة الوطنية الديمقراطية).

ولئن كانت أحزاب الكتلة قد استطاعت في السنوات العشر الأخيرة الحفاظ على ائتلاف ناجع بينها، على الرغم من اختلافها الواضح من حيث البرامج والتوجهات الآيديولوجية (وهي أحزاب خرجت عن الرحم ذاته)، فإن انسجامها مع الحزبين الأخيرين اللذين أفرزتهما تجربة مغايرة (يحسبان عادة على الإدارة) ليس بالأمر البديهي.

ولا شك أن هذه المعادلة المؤقتة مرهونة بعاملين مستقبليين، هما من جهة مؤتمر الاتحاد الاشتراكي الذي سيقرر مصير الحزب وشكل قيادته، في وقت يكثر الحديث عن خلافة اليوسفي على رأس الحزب، والاستحقاقات البرلمانية المقبلة التي من المرجح أن تغير جذريا تركيبة الحياة السياسية وانماط توازناتها، وتظل التشكيلات الإسلامية المجهول الأكثر في هذه الخارطة المتغيرة، كما سنرى لاحقا.