دولة في حمى الكهرباء... دولة في حمى الكراهية

TT

لا شيء يوازي القلق الإسرائيلي من حق العودة إلا القلق الإسرائيلي من حقيقة الرفض عند فلسطينيي الداخل قبل شهرين تقريبا كشف الجيش الاسرائيلي عن خطط لاقامة اسوار مكهربة حول قرى يهودية قرب الضفة الغربية وفي منطقة الجليل ، تحسباً لهجمات محتملة من قرى عربية مجاورة! كان قد مضى على الانتفاضة الفلسطينية شهر كامل تقريباً. وكانت اوهام الدولة الاسرائيلية عن امكان تسويق ثقافة تسوية زائفة عند الفلسطينيين وفي المنطقة العربية، قد بدأت تتساقط هي ايضاً وبوتيرة متصاعدة مثل الشهداء والجرحى الذين سقطوا برصاص الاسرائيليين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويومها قالت صحيفة «هآرتس»، ان خطط الجيش تتضمن بناء مخازن للأسلحة واسوار مكهربة ومواقع لاطلاق النار حول القرى اليهودية التي تقع في مرمى «سكان معادين أو في مناطق نائية مهددة بالعزلة».

كان ذلك طبعا كافيا لطرح سؤال ذي مغزى عميق:

دولة في حمى الكهرباء وكيان في حمى الكراهية... ولكن الى متى؟

طبعاً لا حاجة الى الاجوبة، ربما لأن المنطقة العربية وفي مقدمها فلسطين هي الحقيقة في الشرق الأوسط، أو هي حقيقة الشرق الأوسط، بينما اسرائيل تبقى كياناً داخل شرنقة الكراهية أو الكهرباء، ولكن الكلام المنشور في «هآرتس» يبقى بمثابة مدخل نموذجي لفهم ثقافة التسوية التي تحكم الموقف الاسرائيلي في المفاوضات التي تتعثر وتصطدم دائماً بالعراقيل الاسرائيلية.

وهكذا، من كل الكلام الكثير الذي قيل في الاسبوعين الماضيين عن استئناف المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية في قاعة بولينغ بضواحي واشنطن، نختار كلام وزيرة الاستيعاب الاسرائيلية يولي تامير المقربة من ايهود باراك، والتي قالت يوم الثلاثاء الماضي:

«ان الأمر الاساسي بالنسبة الينا هو الحصول على اهم شيء، اي تنازل الفلسطينيين عن حق اللاجئين في العودة في احد الأيام الى اراضي اسرائيل التي تتمتع بالسيادة».

طبعاً لقد جاء هذا الكلام الدقيق في مدلولاته في سياق الحديث المخطط له سلفاً والذي تكرر على ألسن كثيرين من المسؤولين في تل ابيب في الأيام الماضية، حيث يبدو واضحاً تماماً ان هناك سعياً حقيقياً لاقناع الرأي العام بمنطق «التبادلية» الذي يشكل محور «وثيقة كلينتون» الى مفاوضات قاعة بولينغ. ومن الواضح ان نظرية التبادل، شكلت دائماً ميكانيكية اساسية في مقاربات الديبلوماسية الاميركية حيال التسوية مع الفلسطينيين والدول العربية الاخرى المعنية، وهي الآن تقوم على فكرة خد واعطِ لخلق قناة تفاهم أو قبول، تربط بين عقدتي القدس واللاجئين.

ربما على هذا الاساس اندرج كلام وزير الخارجية شلومو بن عامي عن مسألة «السيادة الدينية» على الحرم القدسي، حيث قال انه «قد يكون من الاسهل قيام طرف ثالث (أميركا) بتقديم اقتراحات تسوية». وربما في اطار الترويج للتبادلية وجد بن عامي انه اذا كان صحيحاً ان اسرائيل تسيطر الآن على «جبل الهيكل» اي الحرم القدسي، الا انها تبقى اسيرة له.

كيف يكون فك هذا الاسر؟

يولي تامير تتولى الاجابة: «اننا نقترب من اللحظة التاريخية للتوصل الى تسوية حول القدس وعلينا الموافقة على تنازلات مؤلمة جداً... وان التخلي بطريقة او باخرى عن السيادة على جبل الهيكل قد يكون ضرورياً».

وفي الواقع ان الطرف الآخر، او الضفة الاخرى من جسر التبادلية، اي مسألة اللاجئين، هي التي تشكل الهدف الجوهري الذي يسعى الاسرائيليون الى تحقيقه في اطار اتفاق التسوية، والأمر هنا يتجاوز توصيفات الوزيرة الاسرائيلية التي رأت ان اسقاط حق العودة هو أهم شيء بالنسبة الى اسرائيل، ليصل بالتالي الى الابعاد الحقيقية التي تقلق الدولة اليهودية في هذه المسألة.

ولا ريب في ان تامير كانت تتحدث بلسان باراك وكل انصاره السياسيين وحتى خصومه، عندما أوضحت:

«ان حق العودة يشكل اكبر قلق لنا لاننا نريد ان نحافظ على الغالبية والطابع اليهودي لاسرائيل، وان التخلي عن حق العودة هو الوسيلة الوحيدة للتوصل الى ذلك»! ان التحليل السيكولوجي الهادئ للاقتناعات الاسرائيلية الكامنة وراء هذه الكلمات، يكشف هشاشة الايمان الضمني بالشرعية المجردة للكيان الاسرائيلي.

فالشرعية هنا فلسطينية، ولا يمكن ان تصير اسرائيلية رغم الاحتلال والسيطرة وتعاقب الاجيال وتغيير معالم الثقافة وتسويق الأمر الواقع وكأنه واقع تاريخي ينسحب على جغرافيا الارض وجغرافيا الفهم الاجتماعي.

والا، لماذا يرى الاسرائيليون، كما قالت تامير ان التخلي عن حق العودة هو الوسيلة الوحيدة (لاحظ كلمة وحيدة) للحفاظ على يهودية اسرائيل؟

ثم الا تعني المطالبة بالتخلي عن حق العودة (لاحظ كلمة حق) تأكيداً ثانياً على الشرعية الفلسطينية وتسليماً لا شعورياً بها، فكيف يمكن ان يتخلى من لا يملك؟

طبعاً لا حاجة الى الاجوبة، فلسنا اساساً في سياق نقاش فكري وسيكولوجي حول الحق الفلسطيني والباطل الاسرائيلي، ولكن طرح مسألة عودة اللاجئين من هذه الزاوية وعلى قاعدة التبادلية التي تدعو الى السخرية لأن التبادل يتم عادة بين مالكين اثنين لا بين مالك ولص سرق البيت ويريد مقايضة بعض المسروقات بالحصول على معظم اجزاء هذا البيت! وقياسا بالاحداث الاخيرة التي حصلت في داخل ما يسمى بـ «الخط الاخضر» اي داخل اسرائيل، عندما بدأت الانتفاضة في 28 ايلول (سبتمبر) الماضي، فإن الحديث الاسرائيلي عن حق العودة الذي «يشكل اكبر قلق لنا»، يجر الى استذكار كل ما قيل من كلام لافت ومهم على هامش انخراط فلسطينيي عام 1948 في الانتفاضة وسقوط 13 شهيدا منهم يحملون الجنسية الاسرائيلية، برصاص الجيش الاسرائيلي كما هو معروف.

ان التحليلات والاستخلاصات التي نشرت في الصحافة الاسرائيلية في الاسبوع الاول من تشرين الاول (اكتوبر) حول هذا الموضوع، تؤكد ضمنا ان لا شيء يوازي «القلق الكبير» من حق العودة إلا ذلك «القلق الكبير» من حقيقة الرفض الفلسطيني الداخلي للاندماج في الدولة اليهودية رغم مرور نصف قرن على قيام هذه الدولة.

لقد كان الامر مثيرا تماما ومقلقا تماما بالنسبة الى اصحاب العقول الباردة في اسرائىل، فالحماسة للانتفاضة ومشاركة فلسطينيي الداخل فيها فتحتا جرحا كبيرا في اوهام اسرائيل.

ونحن هنا لا نتحدث عن رفض الجيل الفلسطيني القديم، بل عن رفض الجيل الجديد من الفتيان، الذين تربوا على «ثقافة التسوية» كما يفترض، فإذا بهذ التسوية تشكل مجرد هراء في نظرهم! وبغض النظر عن موازين القوى الراهنة وعن النتائج التي يمكن التوصل اليها في محوري الصراع الساخن والتسوية الباردة، فإن التدقيق العميق في وتيرة الانتفاضة وما تركته من تداعيات داخل اسرائىل، يؤكد ان الدولة الاسرائىلية هزمت مرتين: مرة خارج الخط الاخضر أي في الضفة وقطاع غزة، ومرة داخل الخط الاخضر، حيث شكلت مشاركة الفلسطينيين النسبية في التظاهرات منطلقا مثيرا لارتفاع صراخ مسعور (ولكن له دلالاته العميقة داخل الوجدان الاسرائيلي) يدعو تقريبا الى تطهير الغيتو اليهودي من «الاقلية» العربية، وهي تتجاوز مليون نسمة تقريبا! لا حاجة هنا الى التذكير بما حصل في حيفا ويافا، ولا الى القول ان الذين اشعلوا سبعين حريقا داخل الخط الاخضر في ليلة واحدة انما كانوا يريدون إلحاق ألسنة النار بأذيال الدولة اليهودية، ولكن هناك حاجة مفيدة الى استعادة بعض ما كُتب وقيل يومها.

فقد كتب ناحوم بارنيع (يديعوت احرونوت 6 / 10 / 2000) يقول: «لقد حدث الكثير هنا منذ يوم الجمعة (أي 28 ايلول (سبتمبر) تاريخ اندلاع الانتفاضة) فالنار التي اشتعلت في المناطق قوضت الايمان لدى الشعبين بالعملية السلمية. وانتشار الاضطرابات داخل الخط الاخضر كان ابلغ أثراً: اذ تبين انه بمقدار ما يحاول الاسرائيليون تحرير انفسهم من المناطق فإن المناطق تلحق بهم، فالخارج هو الخارج والداخل هو الخارج، ويبدو ان الامنية الحمائمية بالفصل التي تم التعبير عنها بطريقة جذابة عبر الملصقات التي تقول «دعونا نفترق بسلام» غدت فارغة.

وكذلك الحال بالنسبة الى الدمج المتواصل منذ 52 عاما لـ «عرب اسرائيل» وهم العرب غير الراغبين في ان يكونوا اسرائيليين، وحملة الهوية الاسرائىلية الذين يريدون ان يبقوا عربا.

وقد يتعين ايضا استعادة بعض ما كتبته صحيفة «معاريف» في هذا السياق: «ان ما حصل داخل الخط الاخضر، اصاب دولة اسرائيل بالصدمة. فلقد عملنا طوال خمسين عاما وسعينا من اجل خلق تمييز واضح بين «عربنا» و«عربهم»، ولكن ها نحن نعود الى عام 1948 الى حرب الاستقلال لأن الشعب العربي «شعب واحد».

وهكذا، اذا كانت محصلة 52 عاما من المساعي الاسرائىلية لتأكيد شرعية الدولة اليهودية قد انتهت بالفشل حتى مع فلسطينيي عام 1948، فكيف الحال بالنسبة الى الآخرين من الفلسطينيين والعرب؟ وهل كثيرا الافتراض، انه بين القلق الكبير من «حق العودة» والقلق الكبير من حقيقة رفض الداخل للكيان الاسرائيلي، يمتد ذلك الحبل الذي سيبقى دائما ملتفا حول عنق شرعية هذا الكيان؟!