جاء ليكحلها... فعماها

TT

عدت في مطلع الاسبوع منذ لبنان بعد زيارة عائلية، ابتعدت خلالها سعيداً عن هموم السياسة ومنظّريها0 غير انني مع عودتي تفجّرت من بيروت قضية لا ككل القضايا.

قضية تختصر معظم عيوبنا ووجوه تخلفنا.

فقد انتصب الميزان عندما خرج المتسابق اللبناني الأخير الباقي ضمن مسابقة «سوبر ستار» الغنائية، في احدى كبريات المحطات التلفزيونية الفضائية اللبنانية، وذلك بعدما تخلف بعدد الاصوات ـ لاحظ عمق التجربة الديمقراطية في عالمنا العربي (!) ـ عن منافستيه السورية والاردنية.

وتظاهر اللبنانيون احتجاجاً...

وضرب الذعر المحطة، فخصّصت حلقة من أحد أفضل برامجها لبحث «الكارثة» بحضور رئيس مجلس إدارتها والمتنافسين الثلاثة ولجنة الحكم (أحد الاعضاء شارك من بيته لأسباب صحية)، ووسط مداخلات هاتفية وفاكسية و«انترنتية» بالعشرات، الكل سقط في مستنقع الدفاع عما حصل، وبعد ما حصل.

الكل دار في فراغ التبريرات العجيبة الغريبة دفاعاً عن النفس، متذرعاً مرة بـ«الديمقراطية»، وثانيةً بتقصير تكنولوجيا الاتصالات، وثالثةً بحملات الدعم الرسمية وغير الرسمية في الاردن وسورية للمنافستين المتقدمتين الى الدور النهائي مقابل تراخي اللبنانيين وتقاعسهم عن دعم مطربهم... إلخ.

وبذل رئيس مجلس الإدارة، وهو أكاديمي وإداري مالي محترم ومشهود له بالكفاءة، جهداً مشكوراً في دفاعه عن نزاهة البرنامج ومن ثم النتيجة التي آل اليها التصويت. لكنه مع ذلك اعترف صراحةً بأن السواد الاعظم من الاصوات التي حصل عليها كل من المتنافسين الثلاثة جاءت من بلده، وان أكثر من 80 في المائة من مجموع الاصوات في الدورة الاخيرة جاءت من دول المتنافسين الثلاثة اي سورية والاردن ولبنان. وهكذا، بلا مقدمات، أطلق رصاصة الرأفة على الغاية الأساسية المعلنة للبرنامج... ألا وهي تعزيز التقارب والتلاقي الفني العربي.

ولم يقصّر مقدم البرنامج، الذي هو في العادة رجل رصين متزن، في «شخصنة» القضية بجعله شخص المطرب الضحية محور البحث. وبرغم بعض اصوات التحدي والتأييد العلني للنتيجة، انقض المتعاطفون ليدلوا بدلائهم واعدين الضحية، الذي تستحق موهبته حقاً الاعجاب لا الشفقة، بـ«هدايا ترضية» معيبة... على الطريقة العربية.

وسمعت من خلال المجادلات والاعتذارات والتوضيحات والتبريرات ـ ولا أذكر بالضبط ممن - ان صيغة Format البرنامج مستوردة «كما هي» من الخارج، وثبت نجاحها في الدول حيث تعد وتبث. وهنا فهمت، ما لم أكن مخطئاً، ان هذه الصيغة معتمدة من حيث استوردت على مستوى الدولة الواحدة، لا عدد من الدول كل منها، كحال دولنا التي تعتبر كل منها نفسها ـ رغم الذل والهوان ـ قارة... ما شاء الله!

لا أحد من المشاركين او الحضور أثار حقيقة بسيطة واحدة هي ان شعوب العالم العربي، التي تعصّبت بالأمس لمطربيها أكثر من تنبهها لأمور أخطر وأدهى تهدّد وجودها... تتمتع في ممارسة الديمقراطية بخبرة توازي خبرتها بارتياد الفضاء. وإلى ان تنجح مساعي البروفسورة كوندوليزا رايس في زرع هذه النعمة العظيمة في أرضنا المستباحة بقوة السلاح فإننا لن نمارسها بالشكل المطلوب «عولمياً» إلا بعد خراب البصرة وغير البصرة.

شيء آخر لفتني، هو التحمّس للاستيراد الأعمى لكل ظواهر الترفيه الاعلامي في الغرب. وبرنامج «سوبر ستار»، مع احترامي للمحطة التلفزيونية التي بثته ونجحت بفضله في استقطاب مئات الالاف من المتفرجين العرب، واحد من البرامج العديدة التي تستورد محطات التلفزيون العربية صيغها من دون تبصر او تحسب. وهذا جانب يستأهل مناقشة جادة عند إثارة مفاهيم طنانة رنانة كالحرية الاعلامية او الاعلام الهادف او التآخي القومي او التوعية الجماهيرية، تماماً كفتح الباب بسذاجة وزهو امام الساسة والمفكرين الغربيين المعادين لنا بالمطلق وتركهم يخاطبون المتلقي العربي البسيط، داخل بيته، من دون إخضاعهم للمساءلة الناقدة المألوفة في محطات التلفزيون الغربية مثلاً.

في اوروبا، تنظم سنوياً مسابقة غنائية تلفزيونية ناجحة عريقة اسمها «يوروفيجن سونغ كونتست» (المسابقة التلفزيونية للاغنية الاوروبية) وتنقل احداثها كبريات محطات القارة. ولقد حصدت هذه المسابقة عبر 48 سنة نجاحاً عظيماً وتألق فيها نجوم كبار بينهم على سبيل المثال لا الحصر المغنية اليونانية العالمية نانا موسكوري والمغني البريطاني العالمي كليف ريتشارد ومواطنته اللامعة لولو، كما فازت بلقبها فرقة «آبا» السويدية الشهيرة عام 1974، وانتزعت الفوز النجمة الكندية الاشهر سيلين ديون ـ ممثلةً سويسرا ـ عام 1988.

ومع ان هذه المسابقة انطلقت من طموحات «وحدوية» اوروبية فقد أدرك القيمون عليها، بتفكير عملي سليم، ضرورة التنبه للولاءات المحلية وتفاوت الحجم السكاني بين دولة أوروبية وأخرى، ولغة أوروبية وأخرى. وبناء عليه حُرم ناخبو كل دولة من التصويت لممثلها (او ممثلتها او ممثليها) في المسابقة، وجعل لكل دولة العدد نفسه من الاصوات (او النقاط) توزّعها على ممثلي الدول الاخرى بالترتيب التصاعدي، بعد تصويت ناخبي كل دولة على حدة محلياً في بث مباشر.

إن صيغة «تعددية» مدروسة بهذا الشكل تقلّص كثيراً احتمالات التحامل والتعصب... ولو كانت لا تحول كلياً دون النكاية او التصويت التكتيكي. وكان بالامكان اعتماد هذا الاسلوب في تصويت برنامج «سوبر ستار» او اختيار صيغة برنامج بديلة مشابهة تسمح باعتماده. الا ان أصحاب القرار غفلوا عن مطب كان عليهم التنبه الى وجوده، أظن انه في نهاية المطاف هزّ صدقية البرنامج وأجّج مشاعر المرارة والتعصب العشائري والانعزالي من دون أي داع.

نقطة أخرى اعتقد ان هذا البرنامج الغنائي أعادها الى أذهاننا، هي ان الأوروبيين أصدق منا عندما يتكلمون عن الوحدة وأبرع منا عندما يباشرون بتطبيقها. والدليل ان القارة التي تضج بما لا يقل عن 35 لغة رئيسة تسير اليوم بخطى حثيثة نحو الوحدة، بينما نسير نحن ابناء لغة الضاد الواحدة وأحفاد خالد بن الوليد وموسى بن نصير باتجاه التشرذم والتفتت.

ففي أوروبا تُفهَم الوحدة تلاقياً للمصالح وتقارباً تدريجياً بلا منة او مزايدة، بينما نحن إما نصرّ على وحدات دون كيشوتية مسلوقة سلقاً... أو نبتكر مسوّغات لقطع الجسور ونسف الثقة وافتعال القطيعة.

لقد قيل الكثير عن مثالب الإعلام العربي، ولا سيما خلال السنوات القليلة الماضية عندما أطلت علينا الفضائيات التلفزيونية ملغيةً المسافات ومقتحمةً كل بيت. والحقيقة ان نسبة لا بأس بها من سهام الانتقادات سدّدت وما زالت تسدد الى هذه الفضائيات خدمةً لأغراض خبيثة بعيدة كل البعد عن الذود عن الحقيقة. غير ان ثمة فضائيات ـ ليس بينها المحطة التي أعدت «سوبر ستار» وبثته ـ سقطت من دون ان تضطر للسقوط، إما لخلطها بين النبأ والتعليق والتحريض، او لاستعانتها بكفاءات مهنية متواضعة تعجز عن مواكبة المنافسة.

كلمة أخيرة. لا بديل عن النوعية في أي عمل إعلامي، ولا يقوم إعلام صحيح في مناخ سياسي مريض. وفي الوقت ذاته يصعب تصوّر أي تحسن في المناخ السياسي في أي مكان بمعزل عن إعلام حرّ وشجاع يحاسب ويكشف ويفضح ويحارب إذا اقتضت الضرورة ذلك. أليس هذا ما حصل في مواجهة هيئة الاذاعة البريطانية (البي بي سي) مع الحكومة البريطانية الحالية حول حرب احتلال العراق؟ او معركة «ووترغيت» التاريخية التي كسبتها صحيفة الـ«واشنطن بوست» ضد إدارة الرئيس الاميركي السابق ريتشارد نيكسون وانتهت بتدميره؟