العراق ... والتجربة الأفغانية

TT

قرار مجلس الأمن انشاء بعثة من الأمم المتحدة «للمساعدة» على اعادة بناء العراق و«المساعدة» على تشكيل حكومة ديمقراطية منتخبة من قبل الشعب العراقي... خطوة ايجابية على طريق رسم الملامح الأولية لعراق ما بعد الحرب. ولكنها خطوة ناقصة طالما اقتصرت مهام البعثة على «المساعدة»، أي، عمليا، مساعدة الحاكم الأميركي العام، بول بريمر، على تعزيز نفوذه في العراق عبر اضفاء شكل من اشكال الشرعية الدولية عليه.

لو كانت الادارة الأميركية جادة في اعطاء الأمم المتحدة دورا اوسع في ادارة العراق المحتل ـ كما طالبت فرنساوالهند وتركيا وغيرها من الدول كشرط اساسي للمساهمة بتحمل اعباء هذه الادارة ـ لما اعلنت واشنطن، عقب صدور قرار مجلس الأمن، «تفضيلها» توسيع نطاق التعاون مع الدول الثماني عشرة التي قبلت المشاركة، دون قيد او شرط، بالمهام «الانسانية» التي تشرف القوات الأميركية عليها في العراق.

إذن، «المحافظون الجدد» في واشنطن ـ او «النيوكونز» (Neo-Cons) كما تسميهم بعض وسائل الاعلام الأميركية ـ ما زالوا مؤمنين برسالتهم «النيوامبريالية» في العراق رغم تنامي الظاهرة المشابهة لظاهرة «أمهات الجنود» الاسرائيليين إبان الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان وتكاثر الاصوات الشعبية المطالبة باعادة الجنود الأميركيين الى بلدهم.

لو كان «النيوكونز» «نيو امبرياليين» ناجحين لجاز السكوت، ولو موقتا، على تجربتهم الامبريالية الثانية في عهد الادارة الجمهورية. ولكن التجربة الأولى في أفغانستان، والثانية في العراق، لا توحيان بانهم يتمتعون بكفاءة تخولهم لعب دور امبرياليي الألفية الثانية . في أفغانستان، صحيح انهم توصلوا الى حرمان أسامة بن لادن من مأوى آمن، وصحيح انهم شكلوا حكومة، وصحيح انهم وضعوا دستورا للبلاد... ولكن سلطة الحكومة لا تتجاوز حدود العاصمة، كابل، وكامل المنطقة الجنوبية في أفغانستان لا تزال منطقة شبه مغلقة على منظمات الاغاثة الدولية، ولوردات الهيروين ما زالوا اسياد البلاد الحقيقيين. والرد الأميركي على تحول أفغانستان الى دولة فاشلة كان تقليص عدد الجنود الأميركيين فيها الى أدنى مستوى ممكن وتحميل منظمة حلف شمال الاطلسي مسؤولية قوات السلام العاملة فيها.

أما في «عراقستان»، فبعد ثلاثة أشهر من احتلال كان يمني النفس بالحلول في قلوب العراقيين واحضانهم قبل ارضهم، لا يزال العراقيون العاديون الموعودون بالديمقراطية محرومين من ابسط مقومات الحياة اليومية ، كالكهرباء والماء، فيما انباء المظاهرات والاعتصامات والقتل والتقتيل اصبحت حدثا يوميا.

وحتى في حال اعتبار مجلس الحكم الانتقالي انجازا أوليا على طريق اعادة الحكم الى أبناء العراق، فهو لا يخرج عن كونه مجلسا معينا، لا منتخبا، ومجلسا تتشكل اكثريته من عراقيين مستوردين من الخارج بعد المرور بمصفاة أميركية ـ بريطانية.

وبالمقابل، ترتفع الضريبة البشرية للاحتلال، فأكثر من 60 أميركيا قتلوا منذ اعلن الرئيس جورج بوش انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية، وتزداد كذلك اعباؤه المادية، فالعمليات العسكرية وحدها ستكلف دافع الضرائب الأميركي نحو 60 مليار دولار فيما تضع بعض التقديرات تكلفة اعادة بناء العراق بحدود الـ600 مليار دولار. بأي منطق سياسي عادي، اصبح «خير البر عاجله»، أي ان تسريع عملية تشكيل جهاز شرطة عراقي ووضع جدول زمني لقيام مجلس تشريعي يضع دستورا جديدا للبلاد وإجراء انتخابات حرة تتيح للعراقيين اختيار حكومتهم بأنفسهم... هي اقصر الطرق للحد من احتمال تحويل العراق الى افغانستان اخرى.

ولكن مشكلة منطق «النيوكونز» انه يستمد مقوماته من آيديولوجيته، وليس من الواقع.