الكوميديا السوداء ما بين واشنطن والرياض

TT

من المؤكد أنّه إذا أردنا التعامل مع التهم الموجّهة من لدن أطراف معيّنة في الولايات المتحدّة الأمريكيّة ضد السعوديين، فإننا سنكون فارغين من كلّ دواعي التصديق. وذلك لأنّ ما تخفيه هذه التهم، بعيد جدّا عمّا تظهره، أو عمّا تحاول تسويقه إعلاميّا.

أمّا إذا تعاطينا معها بجديّة، فإنّنا سنكتشف منذ الوهلة الأولى بأننا أمام كوميديا سوداء!

وتضرب في نفس الوقت تلك التهم القائلة بأنّ المملكة قد ساندت من قاموا بتفجيرات 11 سبتمبر ناقوس الانتباه، لمسألة لا تبدو عارية على السطح كما يجب أن تكون، وهي أنّ المستهدف تحديدا هم السعوديون، كمجتمع يجسد الفضاء الواقعي والرمزي للمسلمين.

ويأتي هذا الاستهداف لاستئصال البعد الديني من ثقافة المسلم وخلق حالات القلق والخوف والإرباك لديه، الشيء الذي يؤدي إلى شعور المسلم الحالي بأنّ دينه قد أصبح عبئا ثقيلا عليه بعد أن أصبح الإسلام والإرهاب توأما متلازما.

وبالنظر إلى مضامين خطاب القوى التي تعادي الثقافة الإسلامية في الولايات المتّحدة الأمريكية، والتي مع الأسف تتمتّع بقوة التأثير، سنرى أن التوجهات الراهنة تقوم على فرضية عصية على الاختبار، وتتمثل في تحويل المجتمعات الإسلاميّة بشكل متدرّج إلى مجتمعات علمانيّة طبقا للابتكار جديد في علم العلمانيّة.

وينص هذا الابتكار الجديد على ما يبدو على فصل الدين عن الفرد في الفضاء السوسيولوجي الإسلامي، وهي كما نلاحظ علمانيّة تمارس مزايدة مستحيلة وانتحاريّة، وتعتقد أنّ فصل الدين عن الدولة لا يختلف عن فصل الدين عن الفرد.

ولأسباب ليست صعبة الإدراك اختارت تلك القوى الضاغطة في الولايات المتحدة الأمريكية أن تستهدف السعوديين بتهمة غير منطقيّة، إذ لا يعقل أن يتمّ التهجّم على دولة كاملة بتعلة أن أفرادا يحملون الجنسيّة السعوديّة قد شاركوا في تفجيرات تاريخ 11 سبتمبر 2001!

إنّ الانصياع لمنطق هذه التهمة يعني أنّ كلّ الجنسيات التي تنتمي إلى تنظيم القاعدة، ستشن حملات على دولهم ومجتمعاتهم، أي أنّ الظواهري سيجني على مصر وسليمان أبو غيث سيجر قدم الكويت... وهكذا دوليك!

ويبدو أن الانتصارات التي حققتها قوات التحالف في منطقة الشرق الأوسط وخاصة بتلك السهولة قد أغرت أعداء العرب والمسلمين في الولايات المتّحدة الأمريكية بالتفكير في خلق أزمات ضغط في المجتمعات الإسلاميّة، تضحي في سبيل تطويقها ومعالجتها مجتمعاتنا بخصوصياتها الثقافيّة والدينيّة وباستحقاقات ماديّة بالنسبة إلى البلدان المصنّفة من الدول الثريّة.

والذي زاد في شدّة نبرة المحافظين الجدد الحالمين بتغيرات جذريّة في منطقة الشرق الأوسط هو الاعتقاد بأنّ دور المملكة الاستراتيجي قد تراجع، وأكدت هذا الاعتقاد بطريقتها الخاصة بعض الدول الإقليميّة.

إلاّ أنّ المتأمّل في هذه الاعتقادات التي تقوم على التشهير بواقع جديد قبل حلوله جملة وتفصيلا، سيرى أنها قد أغفلت خصوصيّة المملكة، بل ورمزيتها كموطن الأماكن المقدّسة للمسلمين وكقبلة مليار مسلم. كما أنّها أكثر دول الخليج عدة وتعدادا ومساحة جغرافيّة وثروات، إذ أنّها كما هو معلوم أكبر منتج ومصدر للبترول وأمريكا تحتاج إلى البترول على الأقل لمدّة ثلاثة عقود قادمة.

وأيضا رغم أنّ الأحداث التي تلت الغزو العراقي للكويت قد جعلت الكثير في البلدان العربيّة يراجع مواقفه ويحدد مواقع جديدة لعديد البلدان العربيّة الإسلاميّة، فإنّه قبل الدخول في هذه النكسة الطويلة، قدّمت المملكة العربيّة السعوديّة للعالم العربي الإسلامي خدمات حسّاسة وخطيرة في أهميّتها ونذكر منها الحظر الذي مارسته على تصدير النفط للغرب في ديسمبر 1973 الشيء الذي خلق أزمة في أوروبا، وجعل العديد من مواطنيها يتنقلون على الدراجات بعد أن قفزت أسعار النفط من ثلاثة دولارات إلى خمسة عشر دولارا.

وإذا ما اعتمدنا التقسيم الذي قام به الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل للتاريخ العربي الحديث والذي قسّمه إلى مرحلتين; المرحلة الأولى التي سماها بمرحلة الثورة وتتزعمها مصر، والمرحلة الثانية الموصوفة بمرحلة الثروة، وذلك بعد الصعود الصاروخي لأسعار النفط سنة 1974 وقد تصدرت هذه المرحلة الثانية المملكة العربيّة السعوديّة، التي أصبحت دولة محوريّة اكتملت فيها شروط التأثير والنفوذ حتى وإن لم تدع زعامة أو تسعى إليها.

إذاً من الواضح أنّ المكانة الرمزيّة التي تتمتّع بها المملكة في الفضاء الإسلامي قد جعلت المحافظين الجدد ينتهجون مسلكا مغايرا للنهج الأمريكي. فالضجيج قد اتخذ شكلا جادا ولكن جديّته في هذه المرّة مختلفة، فهو لا يستهدف طرفا منعزلا بعينه، وإنّما هو معنيّ بالجذور وبالبيئة الرمز للإسلام في العالم الإسلامي، أي أنّ المتحرّكين ضد المسلمين في الولايات المتحدّة قد مرّوا الآن إلى المرحلة الثقافيّة، لذلك فإنّ الحملة في ظاهرها سياسي وفي جوهرها ثقافي مائة بالمائة. فالواضح أن المحافظين الجدد ينوون دفع الإدارة الأمريكية إلى خوض معركة مختلفة. ونظرا لتعقد الحملات الثقافيّة المتسترة فإن المتصيدين في مستنقعات الإرهاب لم يحسنوا صياغة اتهامات صلبة ومحجّجة وإن تمكّنوا من توظيف ناجح نسبيا لخبثهم. والمقصود بذلك هو أنّ معركتهم الثقافيّة الأولى من نوعها في زمن العولمة، جاءت لتفضح كل التدارك الذي مارسته أطراف عديدة في خصوص موقفها من الإسلام وربطه الآلي بالإرهاب، إذ أنّها من فرط قناعتها بأنّ الإرهاب ثقافة إسلاميّة فإنّها استهدفت المجتمع كحامل لتلك الثقافة. لذلك فإن معركتها كما أسلفنا في هذه المرّة لا سياسيّة ولا عسكريّة، وما هوّ سياسي يلعب دور القناة، أي أنّها تحاول الضغط سياسيّا لتطبيق بعض الإستحقاقات المعيّنة المتمثّلة في تقليص التعليم الديني وتعديل المناهج التعليميّة، وهي استحقاقات تبرهن على أنّ الذهنيّة الأمريكيّة التي يسيطر على جزء منها الحالمون بالانقراض العربي الإسلامي تقيم علاقة عضويّة بين الدين والإرهاب، وحالة صدّام مفتعلة وخاطئة بين الأمن القومي الأمريكي والمسلمين من جهة أخرى. إن هذه الحملة التي فاجأت البعض، ليست وليدة لحظة أو قرار من قرارات المحافظين الجدد فقط بل هي صدى لعقيدة تعتنقها بعض القوى الفاعلة في صنع القرار في الولايات المتّحدة وتسعى إلى التبشير بها في البلدان العربيّة الإسلاميّة التي يحطّ غضبها عليها كنسر جائع أو كغراب مثقل بالشؤم، دون اعتبار لأي خصوصيّات، والدليل أنّ الولايات المتّحدة تفكّر في استهداف ثقافة المجتمع السعودي دونما تصحيح لمغالطاتها ولعدم هضمها لجوهر الثقافة الإسلاميّة.

ولأنّ الترسانة العسكريّة عكس الترسانة الثقافيّة، فإنّ دور النشر الأمريكيّة بدأت منذ فترة تلعب دورا لتهيئة المعركة الثقافيّة الدينيّة ضد المجتمع السعودي، وستصدر أو ربما أصدر البعض منها كتبا تمثل أفضح تمهيد لأسوأ معركة ثقافيّة ونذكر منها ثلاثة:

ـ كتاب عنوانه «النوم مع الشيطان» صاحبه روبرت باير وهو ضابط عمل في مديريّة العمليّات في وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة. ويقول هذا الكتاب حسب بعض المنشورات بأنه يبرز للرأي العام كيف باعت المؤسّسة الأمريكيّة نفسها للنفط السعودي.

ـ كتاب آخر عنوانه «مملكة الكراهيّة» كاتبه دورغولد سفير اسرائيل سابق لدى الأمم المتّحدة.

ـ كتاب ثالث للوران موراق عنوانه «تحوّل العقرب» ولقد أمضى صاحبه شهرين للبحث والتقصي في إسرائيل، وهو للعلم على رأس قائمة مستشاري وزارة الدفاع الأمريكية في استراتيجيّة الدولة الأمريكيّة في التصدّي للإرهاب.

أليست بالفعل أزمة مؤامرة!

إنّ الطرف الذي من المنتظر أن يدير هذه الأزمة المؤامرة هو المجتمع السعودي بأطرافه المختلفة وبتنوّعه وبمختلف حساسياته، وهي أزمة ستحدد مدى وعي السعوديين بخصائصهم وبكل الثقل الإسلامي والعربي الذي يمثلونه، بل إنها أزمة يمكن أن يتمّ تحويل وجهة مؤامرتها إلى صالح المجتمع السعودي أي يأخذ منها ما يفيده وما يحتاجه ويدير ظهره عن تطاولها على ما هو رمزي وثقافي خاص وذلك بالحوار الذي يجب أن يشمل الجميع، إضافة إلى الدور الكبير المنتظر من مركز الحوار الوطني الذي أعلن عن إنشائه في الرياض، والذي يشترط الكثير من الاستقلاليّة وخاصّة تعمّقا في استيعاب رمزيّة المملكة المختلفة حتى عن سائر البلدان العربية الإسلامية الأخرى.