«الإرهاب يهددنا» ولو بصيغة النفي

TT

شنت الإدارة الأميركية قبل فترة وجيزة، حملة إعلامية داخل بلادها، استهدفت تحذير المواطنين الأميركيين من احتمال شن عمليات إرهابية على غرار عمليات 11 سبتمبر التي استهدفت برجي نيويورك بالطائرات. كانت الحملة من الكثافة بحيث أثارت التساؤل حول دوافعها. فإذا كانت المعلومات لدى الأجهزة الأمنية صحيحة ودقيقة، فلماذا لا يتم التعامل معها بالوسائل الأمنية المعروفة، وبالسرية التي ترافق مثل هذا النوع من النشاط؟ لماذا لجأت الإدارة الأميركية إلى العلنية في المعالجة والتي أدت إلى إشاعة جو من الذعر؟ خلف هذه الأسئلة كان يوجد تشكك في ما إذا كانت التحذيرات صحيحة أم أنها مقصودة لأسباب أخرى، والأسباب الأخرى هنا تركز على أن الإدارة تريد إشاعة جو من الرعب يعيد المواطن العادي إلى العيش في أجواء عمليات 11 سبتمبر، وهي الأجواء التي شهدت نمو شعبية الرئيس جورج بوش، لعل هذه الإعادة للأجواء السابقة تعيد للرئيس شعبيته وهو على أبواب بدء حملته الانتخابية للرئاسة المقبلة. وسواء أكان هذا الاتهام صحيحا أم لا، فإن الأمر المهم هو أنه قد وجد.

بعد أسابيع قليلة من هذه الحملة الإعلامية الداخلية، وقع حادث انقطاع الكهرباء في بعض المدن الأميركية والكندية (14/8)، وشاعت داخل هذه المدن حالة من الرعب والذعر، وخرج الناس إلى الشوارع بالآلاف هائمين على وجوههم، ولا شك أن ساعات مرت اعتقد فيها الملايين من الناس أن انقطاع الكهرباء تم بسبب عمليات إرهابية جديدة، إلى أن سارع المسؤولون الأميركيون إلى تطمين الجمهور ونفي العلاقة بين الإرهابيين وانقطاع الكهرباء. ولكن طريقة النفي كانت ملغزة، بحيث لم تستبعد وجود عمل إرهابي، فالمتحدث باسم سلطة تنظيم الطاقة احتفظ لنفسه بهامش من الاحتياط، وترك فسحة لاحتمال وجود عمل إرهابي، وذلك حين قال إن انقطاع الكهرباء «لم يكن عملا إرهابيا على ما يبدو»، وإقحام جملة (على ما يبدو) هنا هي الجملة التي تبقي حالة الشك قائمة. وكذلك فعل رئيس بلدية نيويورك ميكائيل بلومبرغ حين خاطب الجمهور عبر التلفزيون قائلا «أستطيع أن أقول لكم إنني متأكد مائة في المائة، من أنه ليس ثمة اي دليل حتى الآن،على أنه (الانقطاع) من فعل إرهابي». وتعبير (حتى الآن) الذي استعمله هو بيت القصيد الذي يوحي بأنه من الممكن ( بعد ذلك) بروز دليل حول دور إرهابي. ولا بد أن نلاحظ أن النفي هنا يكاد يلعب دور التأكيد، وذلك حين يكون الهدف إحياء العلاقة بين ذاكرة المواطن العادي وبين العمليات الإرهابية.

ليس الهدف من هذه الملاحظات القول بأن انقطاع الكهرباء تم بشكل مدبر، إنما لا يمكن تجاهل سعي المسؤولين إلى الاستفادة بسرعة مما حدث، فبدلا من التركيز على أن انقطاع الكهرباء تم لهذا السبب الفني أو ذاك، يجري التركيز على أن لا علاقة للإرهاب بذلك، ويتم هذا قبل ثلاثة أسابيع من موعد ذكرى 11/9، والذي تحرص الإدارة الأميركية على ان تبقى أجواؤه وأدواته حية في ذاكرة الناس،لأنها جوهر استراتيجية الحرب الاستباقية التي يمارسونها حاليا على مستوى العالم.

وإذا نحن تتبعنا الإيماءات السياسية الأميركية في التعامل مع قضايا عديدة أخرى نستطيع أن نلمس الشيء نفسه، حيث توجد إشارات واضحة إلى الرغبة في إبقاء خطر الإرهاب ماثلا أمام أعين الجميع. في العراق مثلا تجري محاولات إعلامية دؤوبة للقول بأن تنظيم القاعدة (بن لادن) يشارك في عمليات مقاومة الاحتلال الأميركي. وتذكّر هذه المحاولات الجديدة بالمحاولات القديمة التي بذلت على مدى أشهر طويلة من أجل إثبات وجود علاقة بين تنظيم «القاعدة» والنظام العراقي السابق، ومع أن تلك المحاولات لم تسفر عن أية نتيجة، فلا تزال هناك أنباء يتم تسريبها إلى أجهزة الإعلام تقول بأن أحد سجناء (غوانتنامو) اعترف بأن العراق سعى إلى مثل هذه العلاقة، وعرض تدريب عناصر «القاعدة» على استعمال الأسلحة البيولوجية. ولا يهم بعد تسريب الخبر ونشره أن يكون الخبر صحيحا أم لا.

وتشهد السعودية أيضا مثلا أشد وضوحا، ففي الوقت الذي تقوم فيه السعودية بتطبيق سياسة حازمة ضد البؤر الإرهابية الكامنة، وتسعى إلى تفكيكها، تواجه بحملة بريطانية ـ أميركية تشيع جوا يوحي بأن الأمور خارجة عن نطاق السيطرة. وتعلن شركة الطيران البريطانية فجأة تعليق جميع رحلاتها إلى السعودية حتى إشعار آخر، وتصدر الولايات المتحدة في اليوم نفسه تحذيرا إلى مواطنيها بتجنب السفر إلى السعودية إلا لأسباب اضطرارية، وتمتلئ وسائل الإعلام بتسربات تقول أن مصدر المعلومات حول الأخطار التي تستدعي ذلك هو السعودية نفسها، وحين تنفي السعودية ذلك لا يتم الالتفات لنفيها، بينما تقول المعلومات الرسمية المؤكدة أن مصدر المعلومات هو المؤسسات البريطانية، فالإذاعة البريطانية نفسها تقول «جاء قرار شركة الطيران البريطانية بعد تلقيها نصيحة من وزارة النقل البريطانية قالت فيها إن لديها معلومات استخبارية موثوق بها تحذر من تهديدات خطيرة تواجه المصالح الجوية البريطانية»، وتفيد هذه الأجواء في إشعار المواطن البريطاني، وإشعار المواطن الأميركي، بأن خطر الإرهاب لا يزال يخيم فوقه،ويفيد ذلك في تحسين شعبية الرئيس الأميركي الانتخابية، كما يفيد في صد الحملات التي تواجه رئيس وزراء بريطانيا.

ولكن الحملة الأخطر والأهم في هذا السياق تتركز حول ايران، وتلعب إسرائيل دورا رئيسيا فيها. وتتركز الحملة حول بناء المفاعل النووي الذي يخضع لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويهدف إلى إنتاج الطاقة الكهربائية. ولكن الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل بالطبع، تصران على أن هدف المفاعل هو إنتاج سلاح نووي. وإذا كانت هذه قصة معروفة، فإن غير المعروف هو أن الموضوع كان مدار بحث بين الرئيس الأميركي جورج بوش وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون أثناء زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض. إن الحديث عن إيران كبلد يدعم الإرهاب أمر شائع، ولكن الأمر هذه المرة يخرج عن هذا الإطار ليصل إلى حد القيام بعمل عسكري ضد إيران، فمعلومات الولايات المتحدة تقول إن ايران إذا أرادت انتاج سلاح نووي، فإن القدرة على ذلك ستتوفر لها بعد أربع سنوات، بينما عرض شارون في اللقاء معلومات إسرائيلية تقول إن ايران ستكون قادرة على ذلك خلال سنة أو سنتين، وهذا الحديث عن السنوات يعني حسب «واشنطن بوست» أن شارون يريد توجيه ضربة عسكرية فورية للمفاعل النووي الإيراني، وهو يريد ضوءا أخضر أميركيا لم يتوفر له حتى الآن. هذا ما تقوله المحاضر السرية، ولكن ماذا تقول الصحافة؟ ايتان هابر (يديعوت أحرونوت ـ 13 اغسطس/آب 2003) يقول «ليس لإسرائيل اليوم أي شيء مهم في العالم أكثر من وجود قنبلة نووية في ايران. لا يوجد في هذه المرحلة خطر أعلى من هذا الخطر. إنه موضوع وجودي. موضوع حياة أو موت. وهذا هو الوقت لقلب العالم، لكي نمنع بكل وسيلة إعداد قنبلة نووية ايرانية، أقول بكل وسيلة»، وللتذكير فقط فإن الذي يقول هذا الكلام ليس محسوبا على اليمين الإسرائيلي المتطرف، فهو كان مدير مكتب اسحق رابين، وهنا يحق لنا أن نسأل: ماذا سيكون موقف اليمين المتطرف إذا كان هذا هو موقف المعتدلين؟

يبدأ الحديث عن الإرهاب كصناعة إعلامية..... وينتهي بالحديث عن حروب تبدأ من فلسطين ولبنان، وتمتد إلى ايران وباكستان وأفغانستان. إنها استراتيجية الحرب الاستباقية الأميركية، التي قد تصبح استراتيجية الحرب الإسرائيلية.