أزمة الإسلاميين في موريتانيا.. لماذا التدويل؟

TT

بعد مرور ثلاثة اشهر على اعتقال وبداية محاكمة بعض رموز «التيار الاسلامي الإحتجاجي» المتعدد الأطياف، وبعد شهرين من المحاولة الإنقلابية التي قادها بعض ضباط الجيش للإطاحة بنظام الحكم الديمقراطي التعددي القائم، وعلى بعد اقل من ثلاثة أشهر قبل الانتخابات الرئاسية القادمة في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 2003، تقف موريتانيا على مفترق طرق حاسم.

من وجهة نظر التحليل الاستراتيجي لخلفية المحاولة الانقلابية التي جرت في موريتانيا يوم 8 يونيو (حزيران) 2003، وتداعياتها المختلفة، تظهر جملة من المعطيات البنيوية المهمة لبلورة تطورات الأحداث الراهنة وآفاقها المستقبلية داخل الساحة الموريتانية.

هل كان الانقلاب الفاشل مجرد ضجة قامت وانتهت؟ أم سيشكل نهاية فعلية لفترة الاستقرار السياسي النسبي التي عرفتها موريتانيا منذ آخر انقلاب عسكري سنة 1984؟ ما طبيعة وحجم المخاطر التي تتهدد البلاد في المستقبل المنظور؟ هل هي مشاكل أمنية وعسكرية: دوامة انقلابات، انفلات أمني داخلي، انفراط عقد الوحدة الوطنية، انتشار العنف المسلح؟ الإرهاب؟ هل هي مشاكل سياسية وتواصلية: أزمات ثقة، تعرقل المسار الديمقراطي، انحسار المشاركة، العجز التواصلي، الاحتقان السياسي، الصراع على السلطة، الحروب الأهلية؟ هل هي مشاكل اجتماعية واقتصادية: تعثر خطة الإصلاحات الاقتصادية، فشل برامج مكافحة الفقر، تخلف الغطاء الصحي والضمان الاجتماعي، اتساع دائرة التهميش، استفحال البطالة، تراكم الإحباط والتوتر، تنامي الاضطرابات المجتمعية؟ هل هي مشاكل بيئية ومناخية: كوارث طبيعية، اشتداد الجفاف والتصحر، انتشار التلوث البيئي والبحري خاصة؟ هل هي مشاكل «جيوبوليتيكية» ودبلوماسية: نزاعات حدودية مع بعض دول الجوار، خلافات وأزمات دبلوماسية إقليمية، اختلالات في قراءة موازين القوى الدولية، أخطاء في السياسة الخارجية، عزلة دبلوماسية؟

أزمة إعلام أم إعلام أزمة

في انتظار اتضاح الرؤية حول هذه الأسئلة، ينشغل المراقبون للمشهد السياسي الموريتاني حاليا بمتابعة تطورات محاكمة الإسلاميين المعتقلين منذ ثلاثة أشهر، والذين تتهمهم السلطات الموريتانية بالتحريض على العنف والإرهاب والتنسيق مع الضباط الانقلابيين.

الجديد في ملف الإسلاميين هو ما يمكن أن يسمى بـ«أزمة التدويل الإعلامي» لهذه القضية من خلال تجاوز الحرب الإعلامية الشرسة التي تشنها بلا هوادة وسائل الإعلام الرسمية ضد هذه الجماعات لحدود موريتانيا، في اتجاه التهجم على بعض الدول العربية والإسلامية بعينها، بما ينذر بأزمة جديدة في ملف العلاقات الدولية العربية الإسلامية لموريتانيا.

وهكذا، اتخذت الحرب الإعلامية ضد الإسلاميين عدة أشكال، من بينها على الخصوص، انتاج وبث برامج إذاعية وتلفزيونية تتضمن مقابلات وشهادات وحوارات وفتاوى وبلاغات تدين بشدة هذه الحركات الإسلامية وتتهمها بالتحريض على العنف والإرهاب.

وقد اتسع نطاق هذه الحرب الإعلامية واشتدت ضراوتها بعيد المحاولة الإنقلابية، من خلال «الافتتاحيات» النارية للوكالة الموريتانية للأنباء، التي تنشرها تباعا جريدة «الشعب»، وتعيد الإذاعة والتلفزيون بثها على نطاق واسع قبيل نشرات الأخبار الرئيسية على مدار اليوم.

وفي منحى مثير للجدل، لجأت هذه «الفتتاحيات» مؤخرا إلى الاستخدام «الأيديولوجي» السافر للخلافات الدينية والمذهبية، العقدية منها والفقهية في حربها الإعلامية «الدونكيشوتية» ضد الإسلاميين، ربما كنوع من أسلحة الدمار الشامل التي يفترض أن تكون محظورة بالنظر الى خطورتها وحساسيتها الفائقة المؤدية الى إثارة المزيد من الفتن والتفرقة والصراعات في ما بين المسلمين عبر العالم.

وقد استهدفت هذه الحرب الإعلامية في سياق حملتها ضد الإسلاميين، النيل من بعض المدارس الفكرية الإسلامية والمذاهب الفقهية، مقابل الإشادة بالمدرسة الأشعرية وبالمذهب المالكي! كما وجهت سيلا من الاتهامات الشنيعة لبعض الفرق والمدارس الفكرية الإسلامية، كالخوارج والمعتزلة والإباضية بشكل عام، والوهابية بشكل خاص، ثم خلصت «افتتاحيات» الوكالة الموريتانية للأنباء، على نحو صريح، عن قصد أو غير قصد، إلى تدويل الأزمة عربيا وإسلاميا، باتهامها شبه المباشر لدولة عربية إسلامية بمحاولة زعزعة الأوضاع في موريتانيا.

لكننا نتساءل كمراقبين:

ـ لماذا وبالنيابة عن من ولمصاحة من تشن هذه الحرب الإعلامية؟

ـ ما طبيعة وحقيقة هذه المبادرة المغامرة لتدويل أزمة الإسلاميين عربيا واسلاميا؟ ومن يقف وراءها؟

في ظل التحولات الديمقراطية التي تعرفها البلاد منذ زهاء عشرين سنة، ألا تعكس هذه الممارسات الإعلامية عجزا بنيويا مزمنا في مجال التواصل «DEFICIT STRUCTUREL DE COMMUNICATION»، يتجلى ـ من بين أمور أخرى ـ من خلال استمرار الهيمنة المطلقة لمؤسسات الإعلام الرسمي من إذاعة وتلفزيون ووكالة للأنباء على ميدان إنتاج ومعالجة وتداول الأخبار والمعلومات بأسلوب بدائي في أشكاله، مضارب في مضامينه، أحادي في توجهاته; أسلوب إعلامي ظل محنطا وعاجزا عن إدراك ومواكبة التغييرات الجوهرية التي تمثل ثمرة للإصلاحات السياسية الدستورية، كالتعددية الحزبية والنقابية والمنظماتية وحرية التفكير والتعبير والصحافة من حيث هي مكاسب للشعب الموريتاني.

لعل جل المتتبعين لقضايا الإعلام والتواصل في موريتانيا، يجمعون على أن القائمين على مؤسسات الإعلام الرسمي، قد دأبوا على تكريس خطاب رخو، يكاد يخلو من أي تميز وتسيطر عليه «الديماغوجية» و«الدوغمائية» الوثوقية، محاولين دوما تسويقه على المستوى السياسي باعتباره تفننا عبقريا في الدفاع عن نظام الحكم السياسي القائم، بالرغم من أن ما ثبت ميدانيا، هو أن هذه الأساليب الإعلامية غير مفيدة مطلقا، وتشوه صورة النظام، وتقوض مصداقيته يوما بعد يوم، إن على المستوى الشعبي أو على مستوى النخب.

إسلاميون أم انقلابيون؟

تعتبر المقاربة الرسمية الوحيدة المتوفرة حاليا، حول ملفي الإسلاميين والانقلابيين، باستثناء الإعلان المقتضب للرئيس ولد الطايع، في خطابه المتلفز يوم 10 يونيو/حزيران 2003 عن فشل الانقلاب، هي بامتياز ما تضمنه خطابه الأخير أمام سكان مدينة أزويرات ـ العاصمة المنجمية في الشمال الموريتاني ـ يوم 12 يوليو/ تموز 2003، من أفكار حول هذا الموضوع.

طرح رئيس الجمهورية بشكل واضح، ولأول مرة، مسألة الربط بين الملفين، معتبرا أن: «الحملة التي قامت في المساجد لتحريض المواطنين وتعبئتهم للجهاد ضد هذا النظام... قامت بها جماعات قالت للناس إننا دعاة نجاهد هذا النظام لحماية الدين الإسلامي...».

وكشف الرئيس معاوية أوجه الشبه والتطابق بين التكتيك الذي اتبعته هذه الجماعات الإسلامية في اساليبها التعبوية، وبين التكتيك الذي استخدمه الانقلابيون لإقناع بعض أفراد القوات المسلحة بمهاجمة القصر الرئاسي تماما: «كما قال الآخرون توجهوا للرئاسة بالدبابات لإنقاذها من اللصوص الذين جاءوا للسيطرة عليها...».

ثم نبه ولد الطايع الى أهمية معطى آخر يتمثل في الظرف الزماني للحادثتين، مستغربا التزامن في ما بينهما: «لقد جاءت هاتان الحملتان في فترة واحدة من الزمن...».

وبناء على ما تقدم، أثار رئيس الجمهورية تساؤلا جوهريا عن طبيعة الرابط، أو العلاقة، التي يفترض أن تكون موجودة بين الإسلاميين والانقلابيين: «... وهو ما يجعلنا نتساءل هل يتسابقون في الوصول الى السلطة أم هو تنسيق ادوار بينهم...».

ثم خلص الرئيس معاوية إلى إدانة الأساليب التي تتبعها والغايات التي تهدف إليها هذه الجماعات الإسلامية مؤكدا: «ان هذه المجموعات جاءت تحت غطاء الإسلام لتوهم الناس أنها تريد إنقاذه، في حين تعمل في واقع الأمر، على تدميره وتدمير دولة إسلامية أقامت الديمقراطية التعددية وضمنت الحرية والمساواة لجميع المواطنين...».

وفي الأخير، خاطب الرئيس ولد الطايع الجميع، في إشارة هامة الى إبقاء الأفق مفتوحا، داعيا المواطنين الى التفكير جديا في السبل الكفيلة بصيانة وتعزيز الاستقرار في البلاد كمسؤولية جماعية.

وفي انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات القضائية الجارية عبر محاكمات عادلة وشفافة، لا شك في أن الكثير من المراقبين يتساءلون، اليوم، عن الحجم الحقيقي لفرضية وجود رابط أو علاقة ما بين الإسلاميين والإنقلابيين في موريتانيا وما تطرحه هذه الفرضية من أسئلة حول طبيعة هذه العلاقة وحجمها ومسوغاتها واهدافها. ثم ما اذا كان الرئيس ولد الطايع نفسه ضحية لـ «نظرية التنسيق» بين الإسلاميين والانقلابيين؟

أجندة للتغيير

أمام تعقيدات ما يمكن تسميته بـ«الوضع الجديد» في موريتانيا ما بعد الانقلاب الفاشل، وفي ظل تشابك وتفاعل الأحداث الأخيرة وتداعياتها المختلفة على الساحة، وبالنظر لصعوبة الخروج بقراءة جاهزة للموقف، ما زال بعض المراقبين يميلون الى الاعتقاد بأن عمق الهزة التي تعرضت لها موريتانيا في 8 يونيو/حزيران الماضي، ربما أسهمت إيجابيا في دفع الرئيس ولد الطايع إلى إعادة ترتيب أولويات سياسته الداخلية والخارجية، ليتم التركيز ـ من بين أمور أخرى ـ على القضايا التالية باعتبارها مفيدة لمصلحة وأمن واستقرار وتنمية الجمهورية:

- العمل على حسم الملف الأمني بفصوله المختلفة: متابعة مجريات التحقيقات الأمنية والقضائية ضد الانقلابيين، ومحاولة إنهائها قبل موعد الانتخابات الرئاسية القادمة في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 2003.

- فتح مشاورات جدية من أجل وضع تصور أولي لإنجاز الدراسات الحصيفة والمتخصصة لمشروع ثقافي وحضاري إصلاحي شامل يعالج مختلف القضايا الحيوية في المجتمع والدولة وخاصة النواحي الدستورية والمؤسسية والسياسية والمدنية والقطاعية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية.

ـ العمل على تحضير الانتخابات الرئاسية القادمة والسعي لتوفير شروطها السياسية المختلفة: الإنفتاح وتعميق الصلة وفتح باب المشاركة السياسية والمهنية أمام الاتجاهات الإصلاحية الوطنية وتشجيع التواصل وبناء الثقة بين مختلف الأجيال داخل الحزب الجمهوري، بناء جسور حقيقية وجادة للحوار الديمقراطي مع مختلف الفاعلين السياسيين الوطنيين في الساحة، تبني مبادرة إعادة تشكيل وبناء الخطاب الوطني المتعالي على ازدواجية «السلطة/المعارضة» على أسس جديدة وجدية تتركز حول قضايا مصلحة وأمن واستقرار وتنمية الجمهورية الإسلامية الموريتانية.

- حلحلة الملفات العالقة وتصفية ملف الإسلاميين بما يضمن استفادتهم من حقهم الشرعي والدستوري في محاكمة عادلة، لا تكون محاكمة لهذه الجماعات على آرائها ومواقفها السياسية، بل محاكمة جادة وموضوعية تتم بطريقة شفافة.

- إنشاء مجلس وطني للأمن، على غرار النموذجين الأمريكي والهندي، يتألف من شخصيات وطنية عالية الأخلاقية والخبرة والموضوعية ويشترك فيه مدنيون وعسكريون بالإضافة لبعض أعضاء الحكومة ويكلف مساعدة رئيس الجمهورية على اتخاذ القرارات الصحيحة والمفيدة لمصلحة أمن الجمهورية.

- إصلاح وإعادة تنظيم قطاع الإعلام والتواصل بما يتماشى مع وضع دولة ديمقراطية تعددية ترجع السيادة فيها للشعب والولاء لمؤسسات الجمهورية ويطبق فيها القانون والنظام بمساواة وعدالة. ويمر هذا الإصلاح حتما بإلغاء وزراة الإعلام، وإنشاء مجلس أعلى للإعلام كمؤسسة جمهورية كاملة الصلاحيات تمارس وظيفتها كسلطة للتنظيم وفتح الإعلام أمام المبادرات الخاصة، لحرية إقامة استغلال مؤسسات إعلامية سمعية وبصرية خصوصية وضمان احترام اختياراتها ومواقفها واستقلالية شؤونها.

- استكمال وتفعيل تنفيذ اصلاحات اللامركزية الإدارية، على غرار النموذج الفرنسي، وذلك من خلال افتتاح ممثليات لجميع الإدارات المركزية على المستوى الجهوي.

- إحياء وتطوير بعض المؤسسات الجمهورية الكسيحة، كوسيط الجمهورية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وتفعيل وتنشيط دورها ودعمها بالقدرات البشرية والمهنية والمالية من أجل اضطلاعها بمهامها التنموية والتحكيمة المفيدة.

- إصلاح السياسة الخارجية للجمهورية، من خلال بلورة استراتيجية وطنية للسياسة الخارجية واضحة المعالم، تقوم على أساس السعي نحو تحقيق مصلحة وأمن واستقرار وتنمية الجمهورية الإسلامية الموريتانية.

رهانات المستقبل

أسئلة ما بعد الانقلاب تظل تكبر وتكبر..، فإذا كان معاوية قد عاش فعلا وسقط النظام، فهل سينجح في تشكيل نظام سياسي جديد مغاير قادر على مواجهة الوضع الجديد بعد الانقلاب؟ وما هي أهم ملامح ومقومات هذا النظام السياسي الجديد، وما هي معالم وسيناريوهات التغييرات والإصلاحات التي تمليها المرحلة وما أجندتها الزمنية؟

ما ذا عن أدوار مختلف الفاعلين السياسيين الآخرين داخل الساحة الموريتانية وخارجها؟ ماذا عن المعطيات الإقليمية والدولية؟

هل ما يزال لدى فرقاء الساحة السياسية الموريتانية وقت للتأمل والتفكير والإصلاح؟ أم أن مناخ الصحراء وتقلباته المفاجئة يبقى سيد الموقف؟ تلك بعض رهانات المستقبل.

* باحث وخبير في العلاقات الدولية