من يغلق أبواب جهنم؟

TT

قبل الحرب على العراق قال السيد الرئيس بشار الأسد في مقابلة مع صحيفة نمساوية «إن الحرب على العراق سوف تفتح أبواب جهنم»، وها نحن في منطقة الشرق الأوسط نشعر أن أبواب جهنم قد فتحت بالفعل وأخذت تلتهم من ضمن من تلتهم خيرة من يعيشون على هذا الكوكب ويكرسون ذهنهم الوقاد كي يكون هذا الكوكب مكاناً أفضل للبشرية جمعاء. ويأتي مقتل سيرجيو فييرا دي ميللو مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في العراق كإحدى هذه الخسائر المحزنة والمفجعة فعلاً الناجمة عن الاحتلال الأمريكي للعراق. لم يكن دي ميللو مجرد مبعوث دولي يقوم بواجبه الوظيفي في الأمم المتحدة ولكنه كان عاشقاً لهذه المنطقة وأبنائها وحضارتها، منذ أن عاش مع والده الذي كان سفيراً للبرازيل في بيروت، وكان في طفولته يزور دمشق. واحتفظ كبرازيلي بحب شديد للعرب ورغبة صادقة في إنقاذ هويتهم وحضارتهم التي كان معجباً بها أيما إعجاب، ولهذا اتسم عمله في العراق وجهده الفريد بتلك الدرجة من الرؤية والتصميم والجرأة على تسمية الأمور بمسمياتها. لقد أكد أكثر من أي مسؤول آخر منخرط في الشأن العراقي على الهوية والكرامة العراقية وعلى ضرورة تعزيز السيادة العراقية، كما عبّر عن رؤيته أنه حالما يتم تعيين وزراء تكنوقراطيين عراقيين سوف يثبتون للعراق والمنطقة أن العراقيين قادرون على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأنه لا حاجة لأن تمارس قوات الاحتلال الأجنبية وظائف الإدارة المدنية في العراق.

إن هذه هي المواقف التي أكد عليها دي ميللو في دمشق وفي بغداد وفي الأمم المتحدة، وهذا يعني أن الذي قتل دي ميللو استهدف ذلك التوجه الذي يؤكد على كرامة العراق وهويته، ويحترم قدرة العراقيين على حكم أنفسهم بأنفسهم وأن الذي قتل دي ميللو لا يقيم وزناً للشرعية الدولية ولا يكنّ احتراماً للواجب المقدس الذي يقوم به العاملون في الأمم المتحدة في ظروف كتلك التي تعم العراق الآن، مخاطرين بحياتهم من أجل استكمال عمل إنساني نبيل ومساعدة شعب يغرق في أزمة حقيقية على استعادة أمنه وعناصر الحياة الطبيعية اللائقة بالإنسانية. لقد تحدث دي ميللو عن معاناة الأطفال العراقيين وها هو منسق الأمـم المتحدة لرعاية الأطفال «يونيسيف» يلقى مصرعه أيضاً إلى جانب دي ميللو. إن قتل دي ميللو هو قتل للرؤية الحاسمة التي مثلها هذا الشخص المتميز بصفاته المهنية والإنسانية والتي نصت بالتفصيل على تشكيل حكومة عراقية ووضع دستور للبلاد وإجراء انتخابات خلال عام واحد.

والسؤال هو: من هو صاحب المصلحة في إطالة عمر الفوضى والخراب في العراق؟ ومن هو صاحب المصلحة في انعدام الأمن والاستقرار في العراق والمنطقة العربية برمتها؟ ومن هو الذي يعمل جاهداً من خلال أعمال إجرامية كهذه على إطالة عمر الجحيم الذي يدفع العرب ثمنه من حياتهم ومستقبلهم ومستقبل أطفالهم؟ حين تحدث وزير خارجية فرنسا في مجلس الأمن ضد الحرب على العراق قال إن على الذين يفكرون بالحرب على العراق أن يفكروا بصعوبة بناء السلام. بعد الحرب سوف يتحتم على الجميع بناء السلام وبناء السلام صعب وما يحتاجه الجميع اليوم في العراق وفلسطين هو بناء السلام ووضع حدّ للقتل العشوائي واجتثاث جذور الأسباب التي تقود إلى العنف والدمار وزهق أرواح الأبرياء وتعميم الخوف بحيث يصعب على أيٍ كان أن يشعر أنه بمنأى عن حالة الاضطراب هذه.

وعلّ أولى الخطوات المنطقية لصنع السلام تكمن في وضع الأمور في نصابها الصحيح وتسمية الأمور بمسمياتها والتوقف عن استخدام الغموض كأسلوب للتهرب من استحقاقات العدل والشرعية الدولية. وعلّ أولى الأسئلة التي يجب أن تُطرح هي كيف يمكن صنع السلام والمحبـة طالمـا أن الاحتلال جاثم على الصدور والظلم يخيم على البـلاد والاعتقالات والاغتيالات هي الخبر اليومي لمن يتحدثون عن «خطوات نحو السلام» و«مبادرات لخلق الثقة». كيف يُصنع السلام حين يتم قتل «من يُشتبه في أنهم متشددون» ومن «يخشى أنهم حين يكبرون وينضجون قد يقاومون الاحتلال» ولماذا السؤال، عن أسباب الكره والعداء طالما أن الميزانيات الضخمة تخصص في إسرائيل لحصار المدن المحتلة وهدم المنازل واعتقال الشباب وقتل الأطفال. كيف يمكن صنع السلام ونقرأ في الأخبار كل يوم العشرات يُقتلون في العراق وفلسطين ودون بذل أي جهد فكري لتحديد معنى الإرهاب والفصل بينه وبين المقاومة. كل هذا الخلط والتعتيم والذي هو جذر من جذور المشكلة هدفه الإبقاء على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة والحديث عن ترتيبات أمنية وتفكيك بنى تحتية وممارسة ضبط النفس لن يجدي نفعاً ما لم تتم العودة إلى بدهيات المسألة القائمة اليوم وهي فرز الحق من الباطل والعدل من الظلم والتفريق بين الإرهاب والمقاومة والصدق في مقاربة المسائل حسب الشرعية الدولية وليس على أساس أن القوة هي الحق، وردم الهوة بين المستوى اللفظي للنوايا السياسية والممارسات المختلفة جداً التي تتم على الأرض.

لقد فتحت أبواب الجحيم في الشرق الأوسط وقد يمتّد لهيبها ليطال أجزاء أخرى في العالم والسبب في ذلك ليس العرب أو المسلمون ولكن السبب هو الحيف والظلم الواقع عليهم واستخدام مبدأ القوة للتعامل مع القضايا الشائكة بدلاً من مبدأ الفهم والحزم. وحين كرس دي ميللو نفسه لمساعدة الشعب العراقي وامتلك الرؤية والجرأة كي يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ويسمي الأشياء بمسمياتها اغتالته اليد التي هي صاحبة المصلحة الأولى في استمرار هذه الفوضى وهذا الدمار. إن مقتل دي ميللو يُري أن الإرهاب لا يعرف لوناً أو ديناً أو عرقاً أو جنسيةً بل هو قوة شرّ مطلقة تستهدف قوى الخير والأمن والسلام. فهل لقوى الخير والسلام في العالم أن تتكاتف اليوم لتضع حداً لهذا القتل المجنون والمجاني كي لا تذهب روح دي ميللو وأرواح آخرين آمنوا بالإنسانية وعملوا وقضوا من أجلها، سدى.

تصادف هذا العام الذكرى الخامسة والعشرون لتوقيع اتفاق كامب دافيد بين بيغن والسادات وقد قال جيمس كارتر بعد أن أصبح خارج البيت الأبيض: «إنه لم يكن يتصور أبداً أن كامب ديفيد ستقتصر على حل مسألة سيناء إذ أنها احتوت على عناصر متكاملة لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي على جميع الجبهات»، وها نحن بعد ربع قرن من ذلك التاريخ وبعد زهق آلاف الأرواح في الشرق الأوسط من جميع الجنسيات والمعتقدات نرى عالمنا يتحرك نحن الهاوية بسرعة أشد مما كان عليه قبل ذلك الوقت. أوليس هذا سبباً كافياً كي نتخلى عن الاستراتيجيات المجتزأة التي لم تجد نفعاً ونستبدلها باستراتيجيات أخرى بديلة ومطروحة تحدثت عن حلول شاملة ودائمة ووضعت عناصرها جميعاً. بين مقتل الكونت بيرنادوت ممثل الأمم المتحدة في فندق كامب دافيد ومقتل سيرجيو فييرا دي ميللو ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في فندق القناة في بغداد عقود من القتل والظلم والاحتلال والجهود التي تولد ميتة وتدّعي أنها تريد السلام.

لقد حان الوقت للنظر في اتجاه آخر وتبني استراتيجيات بديلة تعتمد الصدق والوضوح والأخلاق والعدل والارادة الحقيقية في صنع السلام.

* كاتبة سورية