ليبيريا .. «جحيم متحجر» من توبمان إلى تايلور

TT

هل تساعد استقالة شارل تايلور ليبيريا على الخروج من النفق المظلم الذي تعيش فيه منذ فترة طويلة؟ العارفون بشؤون هذا البلد الافريقي الذي وصفه صحافي بولوني مرموق بـ«الجحيم المتحجر» يعتقدون ان عودة الامن والاستقرار لن تكون أمرا سهلا. لذا فإن الشعب الليبيري سيظل يتخبط في الازمات الخطيرة لفترة اخرى قد تطول.

وعلى اية حال ليس هذا بالامر الغريب. فتاريخ ليبيريا يبدو كما لو انه سلسلة من الازمات التي لا نهاية لها، منذ عام 1821. ففي ذلك العام وصلت الى منروفيا التي ستصبح عاصمة البلاد في ما بعد، باخرة قادمة من الولايات المتحدة الامريكية عليها زنوج امريكيون ويقودها امريكي ابيض يدعى روبرت ستوكن كان عضوا مهما في American Colonisation Society وهي جمعية انسانية كانت قد بعثت في ذلك الوقت لكي تعيد الزنوج الى بلدانهم الاصلية. وحال نزوله الى الارض ارغم روبرت ستوكن رئيس القبيلة، تحت تهديد السلاح، على بيعه مساحات شاسعة من الاراضي مقابل ست بنادق وصندوق من اللؤلؤ. وعلى مدى السنوات التالية توالى قدوم البواخر من الموانئ الامريكية ناقلة اعدادا من الزنوج الذين كانوا عبيدا في مزارع فرجينيا وجورجيا وماريلاند.

ومع مرور الوقت اصبح هؤلاء الذين سموا بـ«الليبراليين الامريكيين» سادة البلاد. وعندما تأسست الجمهورية الليبيرية عام 1847، كان عددهم ستة آلاف، غير ان السلطة السياسية والاقتصادية كانت بيدهم. وناسين حياتهم الصعبة ايام كانوا عبيدا، راحوا يقلدون سادتهم البيض القدامى. مثلهم يلبسون ومثلهم يأكلون ومثلهم يتصرفون.

وعلى مدى عقود طويلة، ظل هؤلاء الليبيراليون الامريكيون يعيشون بمعزل عن السكان المحليين. ومعهم كانوا يتعاملون وكما لو انهم قبائل متوحشة ووثنية. وعلى المخالفين، كانوا يسلطون عقوبات قاسية للغاية. والى الاقاليم التي كانت تظهر فيها حركات تمرد وعصيان بين وقت وآخر، كانوا يرسلون الجنود المدججين بالسلاح فيرتكبون المجازر، ويغتصبون النساء، ويأسرون اعدادا وفيرة من الرجال ليفرضوا عليهم، في ما بعد، القيام بالاعمال الشاقة.

ولكي يحكموا سيطرتهم على البلاد والعباد، قام الليبيراليون الامريكيون بانشاء حزب واحد هو: The True Unity Party وذلك عام 1869، وقد ظل الحزب المذكور يحكم ليبيريا حتى عام 1980. وكان المواطنون مجبرين على الانتساب اليه. فإن لم يفعلوا ذلك ارسلوا الى السجون او اضطروا الى الفرار خارج البلاد.

ويعد ويليام توبمان الذي ظل في السلطة 28 عاما، اشهر الرؤساء الذين حكموا ليبيريا خلال القرن العشرين. وكان يطلب من جواسيسه الذين كان يرسلهم الى جميع انحاء البلاد ان يمدوه بتقارير مفصلة عما يجري من احداث حتى في القرى النائية، شبه المعزولة عن العاصمة. ومثل كل الديكتاتوريين كان يعشق الاحتفالات الشعبية الكبيرة، تلك التي تخرج فيها الجماهير هاتفة بحياته، رافعة لافتات تمجد خصاله، والاعمال التي قام بها لمصلحة الشعب والبلاد، منشدة: «توبمان ابونا وأبو الشعب بأسره. هو يبني لنا طرقات ويمد قنوات المياه وهو الذي يطعمنا وهو الذي يداوينا!».

عقب وفاة ويليام توبمان عام 1971، تسلم صديقه ويليام تولبير الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس السلطة. وكان حاكما فاسدا، يعشق المال والثروة ويهتم بالتجارة في الذهب والسيارات اكثر ما يهتم بشؤون البلاد. ولم يكن يتردد في اعطاء الاوامر باطلاق النار على الذين ينزلون الى الشوارع من اجل المطالبة بالخبز والماء الصالح للشرب.

وفي فجر 12 ابريل/ نيسان 1980، داهم قصره جمع من الجنود وقتلوه وهو غارق في النوم. وكان صموئيل دو الذي كان ضابطا صغيرا نصف أمّي هو الذي قاد الانقلاب وهو ينتمي الى قبيلة «كراهن» الفقيرة التي تعيش في اعماق الغابة.

وكان قد قدم الى العاصمة منروفيا بحثا عن لقمة العيش. وبعد سنوات من التشرد والبطالة انتسب الى الجيش فأصبحت طموحاته عريضة. ومنذ اليوم الاول الذي تسلم فيه السلطة اظهر صموئيل دو قسوة لا مثيل لها. فقد اعدم ثلاثة عشر وزيرا من الحكومة السابقة امام جمع غفير من المواطنين. وعلى مدى السنوات العشر التي حكم فيها البلاد، واجه الشعب الليبيري متاعب قاسية.

في تلك الفترة كان شارل تايلور احد المقربين من صموئيل دو، لكن ذات يوم قرر الهروب الى الولايات المتحدة الامريكية عقب تورطه في قضية اختلاس، وهناك دخل السجن بسبب قضية لا تزال غامضة غير انه تمكن من الفرار ليظهر فجأة في «الكوت ديفوار» وفي اواخر عام 1989، اعلن الحرب على صموئيل دو، وكان جل انصاره من المجرمين ومن اصحاب السوابق العدلية. وهذا ما يفسر المجازر واعمال النهب الفظيعة التي ارتكبوها وهم في طريقهم الى منروفيا للاطاحة بغريم زعيمهم.

ووسط الفوضى التي غرقت فيها البلاد برز متمرد آخر هو برنس جونسون القائد العام للقوات المسلحة والذي كان قبل ذلك من اكثر الرجال وفاء الى صموئيل دو، او هو هكذا كان يظهر على الاقل. وبسبب المعارك الطاحنة التي كانت تخوضها الفرق المتصارعة من اجل السلطة ضد بعضها البعض، تحولت العاصمة منروفيا الى خرائب وانقاض واستفحلت الفوضى وكثرت الحرائق وكانت الجثث المتعفنة تملأ الشوارع والساحات. وبعد اجتماع عقدته دول منطقة افريقيا الغربية، ارسلت نيجيريا عبر البحر قوات بهدف وضع حد للصراع. وفي التاسع من شهر سبتمبر (ايلول) 1990، كان في نية صموئيل دو التوجه الى الميناء للترحيب بالقوات النيجيرية، غير ان رجال برنس جونسون القوا عليه القبض قبل وصوله الى هناك. وبعد ان تم تقييد رجليه ويديه، تم اخضاعه لحصص تعذيب مروعة في حين كان صديقه السابق برنس جونسون يتأمل المشهد الذي كان يتم تصويره بالفيديو بأمر منه، يشرب البيرة وهو في حالة من الفرح والسعادة البالغة، وبعد ان قطعوا اذنيه وانفه ويديه ورجليه، لفظ صموئيل دو انفاسه امام رجال غريمه المنتشين بجبروتهم وقوتهم.

بعدها اشتد القتال بين انصار برنس جونسون وشارل تايلور، وكان هدف كل واحد منهما هو الاستيلاء على السلطة حتى لو كان ثمن ذلك باهظا، ولم تلبث ليبيريا ان تحولت الى ساحة حرب ضارية بين ابنائها. وفي هذه الفترة القاتمة، ظهر اولئك الذين اصبحوا يسمون بـ «امراء الحرب» وهم عادة ضباط قدامى في الجيش النظامي او وزراء سابقون متعطشون للسلطة والثروة والجاه.

في بلد غرق في جحيم مثل ذلك الذي غرقت فيه ليبيريا، يصعب على ابنائه ان يروا في الافق بارقة امل تجعلهم يتصورون ان باستطاعتهم ان يعيشوا الامن والاستقرار والطمأنينة ذات يوم، وهذا هو وضع الليبيريين راهنا، والذين حولتهم الازمات الفظيعة والمصائب الرهيبة التي مروا بها الى رهائن لدى امراء الحرب، والجائعين للسلطة والجاه والثروة.